"كنتُ مستلقيةً وأنا عارية، دائماً عارية. كانوا يأتون مرّةً، مرّتَين أو ثلاث مرّات في اليوم. أرتعد بمجرّد سماعي صوت أحذيتهم في الممرّ. وبعدها، كان الوقت لا ينتهي... الدقائق تبدو لي ساعات، والساعات أيّاماً. أصعب شيء هو أن تتحمّل في الأيام الأولى، أن تتعوّد على الألم. بعدها، تنفصل عن ذهنك، كأنَّ جسدك بدأ يطفو".
بهذه العبارات التي نشرتها صحيفة "لوموند" الفرنسية سنة 2000، ركلت المجاهدة الجزائرية لويزة إغيل أحريز (1936) الصمت فأوجعته. أحدثت تصريحاتها، حينها، هزّةً في فرنسا، كأن الجميع كان ينتظر مَن يجرؤ أخيراً ويُعيد طرح النقاش حول التعذيب على الطاولة، فتوالت الشهادات من الضحايا والمؤرّخين، وكذلك ممّن وُجّهت إليهم أصابع الاتهام، أبرزها "ندمٌ" على استحياء عبّر عنه الجنرال جاك ماسو، قائد المظليّين في "معركة الجزائر" (1956 - 1957)، وفخرٌ بالجريمة أظهره بول أوساريس؛ إذ اعترف القائد العسكري الفرنسي، بنبرة "اعتزاز"، بضلوعه في التعذيب وتصفية الثوّار الجزائريّين.
من يومها لم تهدأ إغيل أحريز.. قرّرت محاكمةَ الجلّادين في ديارهم وإخبار الجيل الجديد بما حدث فعلاً.. سرد الحكاية كلّها بلا أية رقابة. تكلّمت عن التعذيب، والإهانة، والإذلال، وعن الاغتصاب الذي جعلها تدخل في عذاب نفسي دفعها، بعد الاستقلال، إلى دراسة علم النفس، من دون أن تُفلح في تطبيب نفسها.
مؤخّراً، أعاد اعتراف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بجريمة الدولة التي ارتكبتها فرنسا ضدّ المناضل اليساري الجزائري موريس أودان (1932-1957)، ذكريات الأمس القريب التي استعادت المناضلة الجزائرية جانباً منها خلال ندوةٍ نُظّمت ضمن لقاءات "ملتقى الأنوار للفكر الحر" في الجزائر العاصمة.
دخلت المجاهدة في الموعد المحدّد دون دقيقة تأخير، تمشي وحدها من دون سند رغم ثقل السنين. عرفنا بقدومها من صوتها الحادّ القادم من البهو. كانت تروي لأحد مُستقبليها كيف يُحيّي "جنتلمان" سيّدةً؛ تماماً كما فعل فيديل كاسترو معها، منذ أكثر من نصف قرن، حين تخطّى صفّاً من الرجال لكي يحييها أولاً.
بدأت ليلى، وهو اسمها الثوري، شهادتها بالترحّم على روح الفنّان الجزائري رشيد طه. خاطبت الحاضرين قائلةً: "أتدرون أنه حضر كلَّ جلسات محاكمة بول أوساريس في فرنسا على كثرتها؟ وبعد نهاية كل جلسة، كان يتقدّم إليَّ ويهمس بصوته المبحوح: سيّدتي أنتِ لستِ وحدك. كان فنّاناً موهوباً ورجلاً وطنياً".
هنا، توقّفت المتحدّثة قليلاً، كأنها تستحضر تلك الأيام، لتنتفض بعدها ضدّ من عابوا عليها حديثها عن الانتحار: "نعم لقد حاولت الانتحار أكثر من مرّة في سجني. تعال، كُن في مكاني، تجلس فوق الرماد، تُغتَصَبُ كل يوم، وجلّادك مستلقٍ أمامك في أريكة ينظر إليك. عِش ما عشتُه ثم افتِ عليّ بالحلال والحرام". أردفت بعد أن هدأت قليلاً، لكن بنبرةٍ تُفسّر ثورتها: "في قلبي غضب أحمر.. لا بل أسود".
تعرّضت إغيل أحريز إلى التعذيب، بل تعذّبت أيضاً كي ترفع الدعاوى القضائية، خصوصاً أن أفراداً من عائلتها لم يهضموا كشفها عن قضية اغتصابها أمام الجميع.
تقول: "قضيّتي كلّفتني جروحاً جسدية وندوباً نفسية، وأموالاً طائلة لكثرة أسفاري". لا تتحرّج أحريز من الحديث عن الأموال وعن سعيها إلى تنظيم مصاريفها، كاشفةً عن اتّصال أحد رجال الأعمال الجزائريّين بها للتكفّل بالتبعات المالية لقضياها أمام القضاء الفرنسي الفرنسية.
ترفض ليلى وبشدة أي موقف يُشعرها بالإهانة أمام المستعمِر السابق: "كنتُ أرفض أن أتنقّل إلى مراكز السفارة الفرنسية لطلب التأشيرة. لم تُسعفني كرامتي في فعل ذلك. كانوا هم يأتون إلى منزلي لطبع التأشيرة على جواز سفري. تأشيرة ثمانين يوماً كلّ مرّة لحضور المحاكمات وفقط".
من جهة أُخرى، أبدت المتحدّثة ارتياحها لقرار الدولة الفرنسية القاضي بالاعتراف أخيراً بمسؤوليتها عن اغتيال أودان، لكنّها اعتبرت أنه "لا يوجد أودان واحد؛ ففرنسا ارتكبت آلاف الجرائم، وعليها أن تعترف بها كلّها، وعلينا أن نُناضل من أجل ذلك، وأن لا نستجدي أحداً".
وترفض أحريز تلك التقسيمات التي أطلقها البعض، خصوصاً من التيارات الإسلامية، الذين يتحرّجون من إطلاق نعت الشهيد على موريس أودان وفرنان إفتون وفرانتز فانون وغيرهم من الفرنسيّين والأجانب ممّن ناضلوا خلال الثورة على حساب جذورهم الأوروبية: "هم جزائريون وشهداء، ونرفض أن تُدنَّس ذاكرتهم من أي كان ونحن ما زلنا أحياء".
وحول المفقودين قال الكاتب المهتمّ بتاريخ الثورة الجزائرية، منتصر أوبترون، والذي رافق المجاهدة في الندوة، بأن عددهم فاق ثلاثة آلاف في العاصمة وحدها، خلال شهرين فقط من "معركة الجزائر".
ويعيب أوبترون على الدولة الجزائرية "تسرّعها في دفن رفات الشهداء الذين يُعثَر عليهم في المقابر الجماعية"، مضيفاً: "العلم تطوّر الآن، وصار بإمكاننا أن نعرف كيف مات شخص ما منذ ملايين السنين. لم لا نتحقّق من هوية شهدائنا قبل دفنهم؟".
طرحٌ ساندته فيه إغيل أحريز التي نقلت صرخات العديد من أبناء الشهداء الذين فقدوا آباءهم ولم يعثروا على جثثهم إلى الآن: "لا يُمكن أن تهدأ نفس شخصٍ فقد أباه إن لم يدفُن جثّته. وكي يتحقّق هذا، علينا أن نعتمد على أنفسنا، فأرشيف فرنسا مزوَّر، مبتور وموجه لأغراض دعائية.. ولن نجد فيه إجابات لتساؤلاتنا".
اتّفق المتحدّثان أيضاً على رفض تحويل الشهداء إلى مجرّد أرقام؛ فـ "وراء كل شهيدٍ وجه يجب نفض الغبار عنه، وقصّة يجب أن تُروى". هكذا أنهت لويزة إغيل أحريز شهادتها، من دون فخر ولا تواضع مُصطنع، هي التي هزمت فرنسا مرّتَين؛ في أرض المعركة، وفي حرب الذاكرة.
مذكّراتُ جزائرية
في مذكّراتها "جزائريّة" (2011)، التي أعدّتها الكاتبة الفرنسية آن نيفا، سردت لويزة أحريز رواية تعذيبها على يد الجنرال ماسو والكولونيل بيجار، قبل أن يُلقى بها في بركة من الدم بهدف التخلّص منها. لكنها بقيت حيّة، وأخفاها بيكاسو في بيت أسرته عام 1961 لأربعة وثلاثين يوماً. تنتمي لويزة إلى عائلة مناضلة؛ إذ كان شاركت مع شقيقتيها فاطمة ومليكة في جبهة "التحرير" الجزائرية.