قبل رحيله ببضع سنوات، طلب عبد الحليم حافظ من الشاعر الغنائي مرسي جميل عزيز، أن يكتب له أغنية يلحّنها محمد عبد الوهاب. كتب الشاعر "من غير ليه"، وكانت أول تعاونٍ فنّي في ما بينه وبين "موسيقار الأجيال". لم يُمهل القدر المطرب ليغنيّها، فقد رحل عن عالمنا سنة 1977، وبقيَ اللّحن حبيس الظل حتى سنة 1989. كذلك لم يُقدَّر للشاعر الذي رحل سنة 1980، أن يستمتع بسماع تسجيل لحن القصيدة الأخيرة التي كتبها.
في تلك السنوات، كان أكثر من مطرب يحاول الفوز باللحن، بعدما علم الجميع به، لكن الموسيقار لم يتنازل عنه لأحد، وآثر أخيراً أن يعود عن قراره في اعتزال الغناء، ليقدّمه بصوته بعد اثنتي عشرة سنة من اكتمال تأليف اللحن، وصياغة الكلمات التي نسمعها الآن.
بين كلمات الأغنية يُطرح السؤال الأزلي عن معنى الوجود: "جايين الدنيا ما نعرف ليه، ولا رايحين فين ولا عايزين ايه"، وعن حتمية القدر "مشاوير مرسومة لخطاوينا". لكن سرعان ما ننتقل إلى إجابة صريحة بعيدة عن الشّك، إجابة تُقزّم ربما الأسئلة الأولى: "دنيتي حُبّك"، دنيا العلاقة مع المحبوب وشجونها، التي تتناولها بطرق مختلفة أغلب الأغنيات العربية.
■ ■ ■
قبل ألبومها الأخير "إيه في أمل"، غنت فيروز "بيتي صغير بكندا"، وهي عن أغنية (Ma Cabane au Canada) للفرنسية لين رونو، والتي تعود إلى عام 1947. وتعيد ريما الرحباني تجربتها تلك مجدداً، فتنقل لوالدتها أغنية فرنسية أخرى للعربية (Pour Qui Veille L’étoile)، التي كتبها بيير ديلانوي ولحّنها لويس أمادي وجيلبرت بيكو، وغنّاها جان كلود باسكال سنة 1956.
أخذت الأغنية في نسختها العربية اسم "لمين"، وهي إحدى أغاني ألبوم "ببالي" الجديد الذي سيُطرح في الأسواق في أيلول/سبتمبر القادم، ويضمّ عشر أغنيات. وقد أطلقتها ريما الرحباني في الحادي والعشرين من شهر حزيران/ يونيو الماضي، دون غيرها من أغاني الألبوم، كتحية إلى أبيها عاصي في ذكرى رحيله. تقول ريما أنها أغرمت بالأغنية الفرنسية التي اكتشفتها مؤخراً لـ"عبثيتها"، وهكذا، وبكل بساطة تصبح كلمات ولحن هذه الأغنية تحية إلى عاصي، من ابنته ومن رفيقة دربه ونجاحه أيضاً.
وقد سبق لأخيها زياد أن حيّا والده في تسعينيات القرن الماضي، عندما أعاد توزيع بعض من أغانيه القديمة. كان زياد يعلم أن الأغاني الفيروزية الأولى، قد سُجلت برفقة عدد ضئيل من الموسيقيين لعدم توفر الإمكانيات، فأراد تحقيق حلم أبيه (وعمّه بالطبع) في تسجيل ثريّ كريم يليق به وبأعماله.
■ ■ ■
وكما بدأ عبد الوهاب في رائعته "من غير ليه"، كذلك تبدأ فيروز في أغنيتها الجديدة "لمين"، بطرح تلك الأسئلة الكبيرة عن معنى الوجود: "لمين بتسهر النجمة، ليه بتخلص العتمة؟ لمين بيبكي الحور؟ ليه الأرض بتدور؟"، وتأتي الإجابة أيضاً عن طريق أسئلة تطرحها على الآخَر، المتمثل هنا في شخص شريك العمر عاصي، طالما علمنا أن الأغنية مهداة إلى روحه: "إلك؟ أو إلي؟ أو مش لشي؟ مش لشي؟ ولا أي شي".
وجد عبد الوهاب في الحب سبباً للحياة، أو جواباً عن أسئلته حول الوجود. أما فيروز فقد خلصت في إجابتها إلى أن كل هذا الذي نحياه، هراء أو ربما سراب، لا معنى له... هو لا شيء. ولا نعرف في الحقيقة لماذا "تستفقد" الزوجة (والابنة) زوجها وبعد كل هذه السنوات، بمقولة أن كل شيء كنا قد صنعناه كان عبثياً.
لقد لاقى صدور الأغنية موجة من الترحيب، من قبل الفيروزيين الذين يَطربون لأي همسة تتلفّظ بها، كما أثار أيضاً ردود أفعال سلبية، حيث وجد البعض أن لا الكلمات ولا اللحن، يليق بالمطربة التي أصبحت أيقونة شعبية ورمزاً وطنياً.
ونتساءل بدورنا، هل نضبت العبقرية الفنية حتى نتذكّر غياب عاصي بأغنية معرّبة، ليست عربية الروح والنكهة؟ يدافع البعض عن هذا الخيار بأن يسوّق لتبريرات غير مقنعة، كأن يقول هذه ليست أوّل أغنية تُعرّب وتُغنيها فيروز. ويذهب البعض الآخر إلى القول بأن الخيار وقع على التعريب كي نتذكّر بأن عاصي (ومنصور) وفيروز، قد بدأوا بأغنيات معرّبة في بداية تجربتهم أو مشوارهم الفني، والفارق الوحيد هنا أن التعريب قديماً كان إلى الفصحى.
كما نتساءل، كيف نستطيع ترديد عبارة فيروز عن عاصي أنه "زرع جمال، تركلنا جمال كتير"، وفي نفس الوقت نطرب لـ"لمين"؟ هل صدى الجمال الذي تركه هو اللا شيء؟ لِمَ نتذكره إذن؟
لا نطالب أي فنان إلاّ أن يكون ابن عصره، لكن هذا لا يمنع من أن نتذكر كيف كان نجاح "من غير ليه"، الأغنية التقليدية، حتى على صعيد إيرادات سوق التسجيلات، وكانت ساحة الغناء المصرية قد احتُلتْ حينها من قِبل شباب الموضة الراقصة واللحن الخفيف.
■ ■ ■
"لمين؟" نضع هنا إشارة الاستفهام اللازمة لتصبح الكلمة سؤالاً، بعدما لاحظنا أن جميع من كتبها أو كتب عنها، لم يضع هذه الإشارة.
* فنان تشكيلي سوري