من بين العناوين اللافتة في تاريخ النقد العربي، يبرز كتاب مصطفى صادق الرافعي الذي حمل هذا العنوان الدموي: "على السَّفود". والسَّفود في اللغة العربية الفصحى، بحسب الرافعي نفسه، "حديدة يشوى بها اللحم، ويسميها العامة: السيخ".
وقد يتبادر إلى ذهن القارئ قبل أن يبدأ تصفح الكتاب أن المؤلف يريد إنضاجَ المسائل الفكرية التي يتناولها على الجمر. غير أن القراءة ترينا أنه إنما كان يبغي شيَّ أصحابها، أو شيّ عباس محمود العقاد حصراً.
والطريف أن اللوحة التي تتصدر الكتاب تُظهر عملاقاً، ربما كان ينتمي إلى جماعة الغيلان الذين حكت لنا عنهم الجدات، يشوي رجلاً اخترقه السَّفود، على نار لاهبة، فيما ينتظر أربعة رجال آخرين دورهم، مقيدين، مذعورين، قرب قدمي الغول.
ولعل الكتاب يوجز بعنوانه ما تفترضه الثقافة العربية من أن الاختلاف في الرأي يعني، بالضرورة، محاولة من أحد الطرفين لإلغاء الآخر، بأي وسيلة، بما في ذلك بالطبع اختراقه بسيخ حديدي، وشيِّه على النار.
ولا يعثر الباحث عن تاريخ الحوار في الثقافة العربية، إلا على الصيغة التي توجز هذا المنحى الفكري، الذي لم يكن الرافعي وحيداً فيه، وهي صيغة "المعركة". فكل حوار، أو جدال، أو تباين علني في الرأي بين اثنين، هو "معركة".
ومن المألوف أن نسمع في الحديث اليومي وصفاً لأي حوار بأنه "مخانقة". بل إن معظم الكتب التي تؤرخ للحوارات التي خبرتها الثقافة العربية، (باستثناء أعمال محمد كامل الخطيب التي نشرها تحت عنوان "قضايا وحوارات النهضة") السياسية والفكرية والأدبية، جُمعت تحت عنوان "معارك". مما يعكس نزوعاً كيدياً، أو رغبة إقصائية لدى جامعي المختارات يحاول أن يضفي على أي شكل من أشكال الاختلاف في الرأي روح العراك، وهو ما يعني في آخر الأمر "رفض الحوار".
وقد تنشأ روح العراك من الضعف لا من القوة، من الخندق والمتراس، لا من الفروسية المنطلقة، وهذا يعني أننا أمام آلية دفاع تزهو بما هي عليه، في مواجهة الجديد من الأفكار والاقتراحات التي تخصّ نهج الحياة المعتادة التي لا يرغب المدافع المتشدد في تغييرها.
ولهذا، نجد أن معظم "المعارك" كانت تدور في الجوهر بين الجديد والقديم، الجديد في الفكر والسلوك واللباس وأنماط الحياة اليومية. وهو ما يمكن ملاحظته في كتاب أنور الجندي "المساجلات والمعارك الأدبية" إذ يزخر الكتاب بمقالات تسود فيها روح "اللاتسامح الثقافي"، كتبت للرد على دعاة التجديد في الثقافة والحياة واللغة العربية، لا لمناقشتهم أو مساجلتهم.
وفي الغالب فإن اسم "المعركة" يخلق عوالم ثنائية تضع القارئ أمام الخيارين: مع أو ضد، دون أن تمنحه سعادة إجراء أي حوار، والمرجح ألّا يجد أي فريق لدى الفريق الآخر أي صفة مقبولة، والحل المتاح والمقبول لديه هنا هو تصفيته، في حين يفسح الاسم نفسه المجال أمام المتحاربين لاستخدام أي صنف من صنوف الأسلحة، دون أن تشغلهم قضايا أخلاقية، بحيث يكون على كل "مقاتل" انتظار دوره على السَّفود.