في الحديقة الداخلية لمبنى الأتينيو العريق، ذلك المكان المكرّس للثقافة، والذي شهد تاريخُه على تردّد أبرز الشعراء والفنانين عليه، من لوركا إلى بيكاسو، وكذلك دالي وخوان ميرو وسواهم كثير، هنا التقينا الشاعر والناقد الكتلاني ديفيد فيغيراس، في واحدٍ من مساءات برشلونة الدافئة رغم أننا كنا لم نزل في شباط/ فبراير.
وُلد فيغيراس في بلدة ريوس بالقرب من مدينة تارّاغونا سنة 1974، يكتب كثيراً، لكنه لا ينشر كتباً بالوتيرة نفسها، فقد أصدر ثلاث مجموعات شعرية فقط، عناوينها هي على التوالي: "على أبواب تانهويزِر" (1996)، "الضوء العابر" (2001) وأخيراً "حطام سفن" (2014).
لكن له مدوّنة بدأها في 2004، ينشر فيها بشكل غزير، وقد أطلق عليها "الأيام والسيّدات"، وفيها نجد يومياته، ومقالاته النقدية والسياسية كذلك، فقد خصّص في السنتين الأخيرتين الكثير من الوقت للكتابة حول الحرب الروسية في الشيشان، وسياسات روسيا في أوروبا الشرقية عموماً.
يعيش الشاعر في برشلونة التي قدم إليها شاباً من ريوس. عن الانتقال من بلدة صغيرة إلى أخرى كبيرة يقول، في حديث إلى "العربي الجديد": "جئتُها كبيراً، ومع ذلك، أستطيع القول إنها أصبحت مدينتي. أما شعوري نحوها كمدينة، فهو يختلف عن شعور ونظرة المولودين فيها. نظرتي إليها تفصلها مسافة ستبقى ماثلة دائماً. وهذا ما شكّل لي طبيعة أو نوع علاقاتي مع الأشخاص والغرباء والأماكن والأشياء فيها، فبرشلونة مدينة مركزية ومن يولد فيها يلازمه شعور بالإحساس بالمركزية أيضاً".
يكمل: "في برشلونة، ثمّة أمسيات شعرية تُقام يومياً، وهذا وقت خصب، يشير إلى أن الشعر فيها بصحة جيدة. مع أنه ليست قليلة تلك المرّات التي تشعر إزاءها بحاجة ماسة لدعم تلك المؤسسات والمراكز الثقافية الموجودة في كل حيّ. فأولئك الشعراء يقومون بأنشطتهم تطوّعاً وبمبادرات شخصية".
ولكن ماذا يعني أن تكون شاعراً في الألفية الثالثة؟ يجيب فيغيراس: "أظن أن ثنائية أن تكتب لخدمة شيء، أو أن تكتب لنفسك ستظلّ موضع تساؤل، وكأنها محل شك أو محفّز، فليس الأمر هو نفسه إذا كنت شخصاً تعيش مرحلة يكون الشعر فيها خادماً لأمر ما، أو شخصاً لم يعش هذه الحياة وإنما كتبَ الشعرَ من أجل الشعر. لكنني أعتقد أنه، وفي جميع الأحوال، يتعيّن على الشعر أن يحرّك كل شيء: العواطف، الأفكار.. إلخ. بمعنى أن يهزّ الأفكار والحياة بقوّة".
يستكمل: "أظن أن الشاعر في عالم اليوم، يبدو ككائن غريب، وأحياناً مزعج وغير مستحب. فالأمور التي تبدو مهمّة ظاهرياً، تكون على نقيض ما هو جوهري في الشعر. وأظنّ أن هذا الوقت بالتحديد هو الأغرب في تحديده لعلاقة الشاعر بالعالم. هذه العلاقة التي تتبدّى مُلتبسة ومعقّدة جدّاً".
ورغم وسائل التواصل الكبرى والسريعة السائدة في المشهد الثقافي والاجتماعي الآن، يرى الشاعر أن "من يكتبون الشعر، ما زالوا يواجهون صعوبة في التعريف بأنفسهم (عملية النشر والتواصل مع الناس والوصول). لكن أظنّ أن أهم ما في الأمر هو أن يكون الشاعر صادقاً ونزيهاً مع ذاته، وهكذا يستطيع خلق عالمٍ من الكلمات يؤمن هو به، ومن ثم يأمل أن يتلقّاه الناس فيؤمنون به مثلما آمن به كاتبُه من قبل".
يعتبر فيغيراس أن كل قصيدة هي صورة فوتوغرافية، مجموع تفاصيلها هو كل شيء فيها: "أعتقد أن كِتاب الشعر، في النهاية، يُشبه ألبوم الصور. والعمل الشعري هو دائماً شخصي ذاتي، حتى لو أفضت النتيجةُ، بعضَ الأحايين، إلى ما هو خارجي. إن عملية صياغة الشعر هي نفسها أبداً، بغض النظر من أين تأتي: من الداخل أو الخارج، فالشعر ذاتي بالأساس".
وعن سؤالنا حول خصوصية الشعر الكاتلاني، لا يرى فيغيراس أن ثمة شيئاً من هذا القبيل، موضّحاً أنه "مثل كل الشعر في مختلف أرجاء العالم، يُلامس القضايا والشجون الإنسانية الكونية عينَها. صحيح أنه يختلف عن الشعر في اللغة القشتالية مثلاً، إذ لم يكن له الصدى العالمي، كما الأخير، بسبب الظروف المعروفة، ولم يهتم بموضوع الانتشار والتعريف بنفسه مثل شعر اللغة الإسبانية، هذا الذي لم يواجه أية صعوبة في هذا الصدد".
في هذا السياق، يرى فيغيراس أن الشاعر الذي عبّر فعلاً عن الروح الكاتلانيةً لغة وصوراً هو جاسين برداغيه، الذي عاش في القرن التاسع عشر؛ إذ أنه ظهر في الفترة التي أصبحت فيها اللغة الكتلانية مكتوبة واستُخدمت كلغة أدب، حيث تم تقعيد اللغة في هذه الفترة. كذلك يلفت إلى خصوصية الشاعر غابرييل فيرَّاتيه (1922 ـ 1972).
وفي ما يخص علاقة الشعر بالقضايا الوطنية والإنسانية، يعتبر فيغيراس أن الشعر هو طريق في لجّة ما نعيش من تغيّرات وظروف سياسية واقتصادية عاصفة، للمحافظة على الهوية واللغة والثقافية، لكنّه في الوقت نفسه، ينحاز إلى حق الكاتب في أن يكون مخلصاً لفنية وأدبية وجمالية ما يكتب، ثم يستطيع التعبير عن آرائه المباشرة بوصفه فرداً من أفراد المجتمع.
ويتابع: "القضية إن كانت عادلة، فلا بد أن تصبح أحد همومك. فمثلاً الروائي الإيطالي إِرّي دي لوكا لا يتحدّث في رواياته أبداً عن النضال والقضايا التي تؤرّق الناس، لكنه كشخص اضطلع بدور قدير في الدفاع عن قضايا بلده".
يحلم الشاعر بكتابة رواية، وكأنه يضيق بما يستطيع الشعر التعبير عنه، ويريد الانتقال إلى فضاءات أرحب، هنا يذكر تعلّقه بالروائيين الكتلانيين جاوما كابريه، وكيم مونزو، ويذكر ومن الأميركيين فيليب روث وريتشارد فورد، ومن أميركا اللاتينية ماركيز وكورتاثار ورولفو.
بالنسبة إلى الشعراء الشباب في كاتالونيا، يرى صاحب "الضوء العابر" أن أهم ما فعله هؤلاء أنهم "أخرجوا الشعر من بين دفّات الكتب ورفوف المكتبات وجعلوه حياً لصيقاً بالناس. لقد نجحوا في نزع هيبة النخبوية عنه حين أنزلوه إلى الشارع حيث تجري الحياة".
وعند سؤاله عن أثر ما يتمتّع به هذا الجيل من هامش حرية واسع، وكيف أنه يفتح آفاقاً للكتابة لم تُتَح للجيل السابق مثلاً، يعلّق فيغيراس "لا أعتقد ذلك. إنما يحدث أحياناً أن تُفاجأ بنوع من الرقابة يحصل. سأضرب لك مثلاً طازجاً: هناك شاعر مُنح قبل فترة جائزة في برشلونة، وأثناء حفل التسليم، ألقى قصيدة كانت صادمة وكاسرة للتابوهات، فلاقت هجاء ونقضاً من جانب الكنيسة الكاثوليكية".
يضيف: "إن السلطة، لا يعجبها مطلقاً أن يقوم الشعراء بهذا الدور: إخراج الشعر من نصّه المكتوب محدود التأثير وإشاعته بين الناس وحصوله على تأثير أكبر".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ضرورات نقيض الشعر
إذا بحثتَ عن الشاعر ديفيد فيغيراس، ستجده حاضراً بقوة على تويتر وكذلك فيسبوك. وبينما يرى صاحب مدونة "أيام وسيدات" أن الشاعر ما زال يعيش صعوبات الانتشار، وينظر إلى العولمة كـ "نقيض للشعر"، فإنه يؤكّد في الوقت نفسه أن العولمة نفسها في أحيان كثيرة، ومن حيث لا ترغب، تساعد على التعريف بالشعر وخلق الفرص لانتشاره وسرعة وصوله إلى جغرافيا أوسع من القرّاء عبر وسائط الاتصال الحديثة.