ذات يوم سأل صحافيٌّ الشاعرَ الناسك محمود البريكان (1931-2002) عمّا إذا كان يرى في الشاعر شخصاً مسؤولاً تجاه مجتمعه ككل، وعن الكيفية التي يستخدم فيها فنه. ردّ البريكان: "نعم.. الشاعر شخصٌ مسؤول، ولكنه حرٌّ أيضاً في تقرير كيف ينهض بمسؤوليته".
الأمر كذلك بالفعل، إذ لا أحد يمكن أن يحدّد للفنان ما سيفكّرُ فيه وهو يخلق عمله الفني، وفي أي شكل وبأي وسيلة. مسؤولية الفنان وحريته قضيّتان شخصيّتان تصدران عن دواخل الفنان، كما تصدر قدرته الإبداعية، ولا تُفرضان عليه من الخارج. القول بحرية الفنان في تحديد عوالمه لا ينفي القول بمسؤوليته، أو التزامه كما يقال عادة. ولحل هذا التناقض الظاهري بين المسؤولية والحرية، يمثل السؤال: كيف وبأي معنى؟
أعتقد أن مصدر هذه المسؤولية غير المحددة، والغامضة، مستمدٌ بالدرجة الأولى من طبيعة الفن ذاته، ويمكن بيان هذا بشرح ثلاث مستويات مختلفة. أوّلا، أي عمل من أعمال الفن، والشعر أحدها، هو صورة تمثيلية تعبّر عن نظرة إلى العالم، أو تحمل بذاتها هذه النظرة إلى العالم. ويختلف تعبير هذه الصورة عما تعبّر عنه أعمالٌ أخرى، مثل التقرير والخبر أو وجهة النظر الأيديولوجية، حتى وإن استعارت هذه شيئاً من ألوان الصورة الفنية ورؤيتها، وأنتجت نصوصاً جميلة.
الرؤية الفنية وسيطها الصورة، وخلال الصورة تنبعث أشعة قوتها الإيحائية. ولتقييم مدى عمق هذه القوة الإيحائية علينا استكشاف وصلات عديدة دالة في الصورة نفسها تقودنا إلى بوابات عدد من العوالم الفكرية والحسية التي ارتادها الفنان، أي تصلنا بممكنات تتجاوز واجهات حياتنا اليومية المعتمدة عادة على وصلة واحدة أو وصلتين. ومن دون الولوج عبر هذه الوصلات سيظل العمل الفني مغلقاً أمام المتلقي، سواء كان قارئاً أو ناقداً أو مجرّد باحث عابر ذي وجهة أخرى. هذه الرؤية ترتبط ببصائر الفنان أكثر من ارتباطها بما يقال عنها، أو بما يراد لها أن تقوله، لأنها ترى الوجود في حالة صيرورة دائمة، ولأنها لا شأن لها بالواجهات؛ إنها تنتمي إلى الواقع الباطن، وليس الواقع المعلن.
ثانياً، أي عمل فني يعبّر عن نفسه بوصفهِ جواباً أو استجابة لأسئلة علائقية (ذات علاقات متعدّدة)، أسئلة تحيط بالماضي والحاضر والمستقبل. وبناءً على هذا لا يمكن أن تكون لعمل الفنان علاقة بعرق أو دين معين أو ثقافة خاصة. ويصل العملُ الفني إلى هذا بمواجهة أسئلة من نوع: "ما معنى الحياة؟".
ولكي يكون جوابُ الفنان شاملاً وكونياً بهذا المعنى، سيجد نفسه في وضعية غير محدَّدة، كمن يواجه وصلاتٍ متعددة عليه أن يلجها بحثاً عن جواب ممكن بين عددٍ من الممكنات، ليردّ على سؤال سأله كل كائن إنساني. في وضعية مثل هذه، يجد الفنان نفسه أمام سؤال ماثل في ذاكرة الكون، أي سيجد نفسه في قلب الكلِّ الذي هو واقعه الحقيقي، الوطيد، لا الواقع العابر. هنا يتوافق الفنان مع ذاته فعلاً، مع مسؤوليته الحقة. فمن دون أخذ هذا الكلِّ في الاعتبار لا يمكن للفنان أن يبرّر عمله، أو "جعل شيء ما قابل للخلود" بتعبير الشاعر الألماني راينر ماريا ريلكه.
ثالثاً، يمتلك العملُ الفني قدرة على الذهاب إلى ما هو أبعد من الواقع القائم، وإنشاء علاقات حيوية مع واقع باطن أكثر عمقاً يتضمّن شتى الممكنات. وفي هذه الوضعية العلائقية، بين الظاهر والباطن، يمتلك الفنان حريته في أن تكون له بصائره ومسؤولياته ووجوده الحق.
وبهذا لا يكون الفنان متوحّداً، أي مغترباً، عن ذاته الحقيقية. سيكون في هذه الوضعية قادراً على رؤية الأرض لا الخريطة، الأصل لا التمثيلات، وسيبرهن الأفقُ هنا على أنه أكثر أهمية من المكان. مسؤولية الفنان هي مسؤوليته أمام الكل الشامل بالتناغم مع طبيعة فنّه. وهنا سيحدث شيء ما، ما دام أن لديه ما يقوله من مركز الأشياء هذا.