دائماً هناك قصة عن اللقاء الأول لكلٍّ منَّا بماركيز (غالباً على صفحات "مائة عام من العزلة"، أو "الحب في زمن الكوليرا")، ذلك اللقاء المذهل الذي يتسبب لكثيرين بدهشة قد تستمر أعواماً، وقد يلطم بعضَنا بكوابيس لذيذة.
فأن يقتحم عليك ماركيز صمت حياتك في سن الثالثة عشرة ـ كما حدث معي مثلاً ـ لهو أمر كاف ليزلزل مسلماتك عن الحياة، والموت، والمنطق، ويبذر فيك الريبة فلا تميِّز ما هو حقيقي عمّا هو ليس كذلك. بل قد يثير رياح مراكبك التي لم تبحر حتى ذلك الوقت في الأنهر الساكنة لحياة الريف المنسي في دولة تقع في قلب أفريقيا.
كيف تسلَّل إلى هناك؟ أية قوة تجعل ماركيز يصل إلى هذه المجاهل، يصل إليك، فتعرف أنه أفضل ما أنتجته كولومبيا، حتى قبل أن تعرف ما هي كولومبيا؟
أحبُّ ماركيز، مثل أكثر أبناء جيلي المفتقر إلى الحياة والحب. أحب ماركيز الذي جاء ليشبعنا ويُغْنِي فقرَنا ذاك بحكاياته، بعالمه المكوّن من عصير الرغبات والاحتمالات والخسارات الصغيرة.
تعرف بعد سنوات أن ماركيز غيَّرك، فترى النهر كالأنهر في قصصه، وحقول قصب السكر تصير حقول موز رطبة، والغابة الصغيرة الشوكيَّة تغدو غابة استوائية مطيرة، وترى الناس الواجمين في بلدتك المُهمَلَة يتدفقون سحراً، كما لو أنَّك تجول بين دفتي رواية، وتصيخ لماركيز يرصّ التفاصيل ليبني حلماً شاسعاً ناريَّ الجمال.
وداعاً الآن، غابرييل غارسيا ماركيز، سنهشُّ النسيان عن اسمك؛ سنهشُّ الموت عن دهشتنا الأولى بك، ولن تموت.