واضحٌ أنني ارتكبتُ خطأً مؤلماً حين قرّرتُ اعتلاء السروة. كنت خائفاً من العقاب الذي ينتظرني من أصحابي الذين بدأوا يتجمّعون في الأسفل.
كان ذلك في نيسان، الشهر الملتبس الهوية رغم وقع اسمه الربيعي، خصوصاً وهو يمرّ في جبال الجليل التي يتأخّر حرّ الصيف في وصولها. ينكمش ذلك الطفل على جسده الصغير وهو يتلقى العقاب بأيدي أترابه - كم أحب هذه الكلمة: أتراب - لا يقصدون إيذاءه بل معاقبته فقط على تخريب اللعبة.
يقول الطفل: أجمل ليالي الصيف ليالي العطلة. كم أحب اللعب حول دار جدي. كم لا أطيق المدرسة. نبدأ بمناداة بعضنا من البيوت، وهناك من يصفّر. أنا لا أعرف أن أصفّر. حاولت وحاولت لكن الهواء ظلّ يخرج دون صوت. يئست. مع أنني بقيت أحاول حين لا يكون أحد قربي، خجلاً.
قرب بيت جدي جدار تظهر منه حجارة لونها كالأصفر. ألمسها دائماً لأنها تظلّ غريبة ومشوّقة. هذا الجدار محطة لعبة الطمّيمة/ الغمّيضة. ننقسم إلى فرقتين أحياناً، وفي أحيان أخرى نلعب كلّ بمفرده. فريق يهرب ويختبئ، وفريق يلبث مغمض العيون و"يطمّ" على الجدار، قبل أن يسرح ركضاً بحثاً عنهم.
دائماً أفكّر كيف سأختبئ. أكثر ما لا أطيقه هو أن أكون في فريق الباحثين عن المختبئين، أو ذلك المتروك وحيداً ليبحث عنهم بعد أن يعدّ للمئة، أول عشرة بمنزلة الآحاد ثم بالعشرات، وهو مغمض العينين. أحبّ الهرب والاختباء وترك الجميع محتارين في مكاني، مثلما أحبّ أن أكون الهندي ضد الكاوبوي، ومن الحراميّة ضد الأبطال.
قرب بيت جدي هناك المرج. على الجانب الأيسر من الشارع الذي يقطعه تقع البركة، كل مطر الحارة يتجمّع هناك. بين البركة والشارع صفّ من شجر السرو العالي. هذه المرّة قررتُ صعود السروة الوسطى والاختباء فيها. جذع السرو خشن لكن فروعه الكثيرة تجعله كالسلّم. رحت أصعد بخفة القطط ودخلت في أعلاها بين أغصانها الخفيفة.
هناك سرّ جميل لا يعرفه سوى الأطفال في أن تختبئ ويبحث آخرون عنك. أذكر أني كنت مستعداً لتجميد اللعبة بشرط أن أختبئ في مكان لا يصله أحد، ولا حتى أكثر أترابي شقاوة وخبثاً. غالباً ما كنت أخرّب اللعبة وأتلقّى عقاباً. حين يشتد العقاب ويبدأ الضرب الجماعي كنت أهرب إلى جدي. أحياناً كان يشتم الأولاد وحتى أهاليهم رغم أن بعضهم من أقرب أقربائه..
أمّا جدتي فكانت مقتنعة بأنني شقيّ والأولاد على حق. مع ذلك لم أغضب عليها. ربما لأنني كنت أعرف في داخلي أنها على حق. لكني كنت حينها أحب جدي أكثر. لأنه معي. لقد دخلتُ صراعات القوى السياسية مبكراً.
كانوا يتراكضون بحثاً عني وأنا أراهم من فوق السروة. يا للسعادة. أكتم ضحكتي من عليائي وأنا أسمع أحدهم يشتم أمي. لقد غضب، وأنا فوقه، لا يراني لكني أراه وأسمعه. فجأة شعرت بعطسة تجتاح أنفي. لم أجرؤ على الإفلات من الغصن المغبّر محاولاً إغلاق أنفي أو تغطية وجهي. سأسقط لو حركت أصابعي.. ذلك الحيوان، أصغر ولد في اللعبة انتبه، وراح يزعق مشيراً إلى الأعلى: "هناك هناك.. متخبّي هناك"..
لقد كشفني اللعين. لم يحاول أحد الصعود. تجمّعوا تحتي وانهالوا عليّ بالحجارة.
ما أجملها، الطفولة، ولو تحت سيل من الحجارة.
* كاتب من فلسطين