انطلق أحمد محجوب في محاضرته، التي بُثّت عبر عددٍ من وسائط التواصل الاجتماعي، من ملاحظةٍ مفادُها كثرة الاشتقاقات في اللغة العربية بالنسبة إلى القيم والأنشطة الاجتماعية السلبية وما ينجم عنها من سلوكات منحرفة، في مقابل خلوّ القيَم والنشاطات الإيجابية من تلك الاشتقاقات.
كمثالٍ على ذلك، يستشهد المحاضر بجملةٍ من الألفاظ التي تُطلَق على الشخص غير الوفيّ؛ من بينها: غادر، وغَدَّار، وغدور، وغِدِّير، وغُدَرٌ، كما يُنادى بـ "مَغدَر"، و"ابن مَغدَر"، بينما لم تمنح اللغة الشخص الذي يتّصف بالوفاء سوى بضع كلماتٍ أبرزها "الوفيّ".
ويورد أحمد محجوب مثالاً آخر في هذا السياق يتعلّق بالشخص الذي يتحلّى بصفة الصدق؛ حيثُ يوصَف ببضع صفاتٍ فقط أبرزها: الصادق، والصدوق، والصدّيق، في حين يُحصي خمسة عشر وصفاً اشتقاقياً يُحاط بها الشخص الذي يتّصف بالكذب؛ من بينها: اشتقاقيًا: كاذِب، كَذَّاب، كَذُوب، كُذَبَة، تِكِذَّاب، كَذُوبَة، كَذْبان، كُذُبْذُب، مَكْذَبان، مضيفاً أن ذلك ينسحب على صفاتٍ أُخرى؛ مثل الخديعة في مقابل النصح، والخيانة في مقابل الأمانة.
انطلاقاً من هذه الملاحظة، تطرح المحاضَرةُ سؤالها الرئيسي: لماذا خصّصت اللغة، ضمن الجذر الواحد، أبنيةً للقيم السلبية؛ مثل الغدر والكذب والخديعة والخيانة، أكثر بكثير من تلك التي خصّصتها للقيم الإيجابية؛ مثل الوفاء والصدق والأمانة والغدر؟
يتساءل المحاضرُ: هل لذلك علاقةٌ بتفشّي الظواهر الاجتماعية السلبية مقارنةً بغيرها، ومن ثمّ وجودُ تناسب بين كثرة السلوكات السلبية وكثرة الأبنية الدالّة عليها، أم أنَّ هذه الظاهرة اللغوية إنما تسعى، من خلال ضخّ الأبنية الدالّة على السلوكات السلبية، إلى ترسيخ القيم الإيجابية والممارسات القويمة عبر التنفير ممّا يناقضها؟ أم أنَّ للظاهرة أبعاداً تتّصل بالبناء اللغوي في صلته، من عدمها، بالسياق الاستعمالي/ التداولي، وبالتعالُق بين ما ينبغي أن يكون وما هو كائن استحضاراً لمصدر النصّ وسلطة الخطاب، وبين مستوى الوعي واللّاوعي الجمعي؟
ينطلق أحمد محجوب في إجابته عن تلك التساؤلات من ملاحظة مجموعة من الأسئلة التي أُثير في البيئتين اللسانية والفكرية؛ من بينها: هل تصف اللغةُ الواقعَ وتعكسه، أم تخلق واقعاً جديداً وتولّده؟ وكيف نتعامل مع اللغة؟ هل نعدُّها شفّافةً ومحايدةً، أم مخادِعةً ومضلّلةً؟ وأين نلمح التقاطع، بواسطة الأبنية اللغوية، بين اللغة كخصيصةً نفسيّة من خصائص الفرد واللغة، وكمؤسّسةً من مؤسّسات المجتمع؟
يعتبر الباحث أنّ بعض تلك الأسئلة يجد مسوِّغ إثارته في أنَّ كلّ مجتمع يعمد إلى "مَقْوَلَة" (Categorization) الوجود وفقًا للغته؛ فلا يرى العالَم إلّا مِن خلالها، كما يرى سابير (Sapir)، موضّحاً أنّ في الجنس (التذكير والتأنيث)، والعدد (الإفراد والجمع)، وبعض الفضاءات والحقول الدلاليّة (الألوان مثلاً) ما يكفي للتدليل على ذلك.
من هنا، انتقل الباحث إلى رصد سلّمٍ قيمي وسلوكي فيه أهمّ الأنماط المدروسة، ومدى تواتر الصيغ الاشتقاقيّة المعبّرة عنها، جاعلةً من معاجم اللغة العربية التراثية مدوّنةً ومصدراً للدراسة، وتُقدّم عدّة تفسيرات للظاهرة، ليختم بالقول: "إيماناً منّا بأنّ الظواهر الاجتماعية من التعقيد بحيث يعسر تفسيرها بالاعتماد على سبب واحد".
يُذكر أنَّ محمد محمود أحمد محجوب أكاديمي وباحث وخبيرٌ لغوي مشارك في "معجم الدوحة التاريخي للغة العربية"، حصل على دكتوراه الدولة في اللسانيات، ودرَّسَ في عدّة جامعاتٍ وعمل في عدّة مراكز بحثية داخل موريتانيا وخارجها.