أحياناً، يحدث أن نكتب ونصل في لحظةٍ ما، إلى ما يمكن تسميته بـ "المنطقة الميتة من النص". نجاهد ـ بعدها ـ كي نتقدّم في الخواء المعتم، ونكرّر المجاهدة على أمل لمعةٍ أو نجدة، إنّما هيهات. فلا محاصيل في أرض الخواء المعتم.
إنه حال "الكتّاب" جميعاً، منذ انتقل أحفاد الحيوان الناطق من طور الشفاهة والسماع إلى طور الكتابة والقراءة. روائيون ومدبّجو حكايات، مؤلّفو مسرح وقصّاصون، شعراء بل حتى كتّاب مقال. كلّ مَن ابتُليَ بالكتابة، بصرف النظر عن التجنيس الأدبيّ لها.
قد يعاني هذا الروائي مثلاً أكثر من ذاك الشاعر، وقد يصحّ العكس.
جنسُ النص هنا وحجمه، لا دخل لهما بالموضوع.
المنطقة الميتة، إذاً، موجودة على طاولة كل كاتب. بعضهم يلقي المخطوط في الدرج لوقتٍ يقصر أو يطول. وبعضهم الآخر يرميه في سلة المهملات، ويتنفس الصعداء. بعضهم كذا، وبعضهم كذا. لكنّ الجميع يواجهون "المنطقة الميته" ذاتها .. "المصدّ الإسمنتي عينه"، فما العمل؟
بالتأكيد، لكل كاتب طريقته في حلّ الإشكال، فلا غوث يأتي من خارج، ولا نصيحة غيريّة تنفع ههنا. وإن تَعلّمنا من التجربة الفردية، أن قصيدةً غير مكتملة، لن ترى الاكتمال الصحيح في الأغلب الأعمّ. لذا فليس إلاّ التحلّي بـ "شجاعة الكريم" وإعدامها فوراً أو بعد حين. إعدامها كيلا تظلّ عبئاً، يرافقنا في المستقبل، وربما يمنع ولادة نص جديد.
لكن ماذا عن الروائيّ، الراغب في والمنكبّ على عملٍ كبير، ثلاثيّ أو رباعيّ أو خماسيّ الأجزاء؟ أليس معذوراً لو تشبّث بالمستحيل وبالتعلّل الدائم لئلا يضيع عليه مشروعُ عمرٍ وجهدُ سنوات؟
الإشكال عويص على الكلّ، وكل كاتب وله "بلوى على قدّه". بل لعلّي أتراجع فأقول إنّ بلواك شاعراً أو قاصّاً أو كاتبَ شذرة ـ على غير ما يظنّ كثيرون يا عزيزي ـ أعوص بكثير. لأنّ ثلاثتكم تكدحون في مساحة جِد ضيقة، وعليكم أن تنجزوا عملكم، دفقةً واحدة، قبل أن يبرد أو يموت، وبمنحىً لا يفضح ألاعيب "العقل القاصر" وترقيعات "الصنعة". فما العمل؟
أذكر أنني سألت سركون بولص، ذات فجر في جنوب فرنسا، فقال إنه حالما يصل لوضع كهذا (وما أكثر ما يصل) فسرعان ما يترك كل شيء وينام. فإن لم يجد "الهدية المنتظرة" بعد استيقاظه مباشرةً، يذهب إلى تصفّح كتاب بلغة غير العربية.
ثم يخرج للشوارع ليلاً، ويجول بالساعات على غير هدى، حتى إذا عاد وجلَس إلى نصّه، هبطت عليه الكلمةُ أو السطرُ أو القفلة المفقودة كأجمل هدية في الكون.
سألته: وهل يحدث معك الأمر بنفس المنوال والوتيرة غالباً؟ قال: أجل. ولما لاحظ شكّي، أردف: ليس غالباً ولكن في أحيان قليلة سعيدة.
ـ وماذا إن لم تهبط هدية السماء أو اللاوعي؟
ـ أضرب رأسي في الحيط، وأمزّق النص.
نعم، يا سركون: هذا هو. وكلنا نعاني منه، ضحُلت خبرتُنا أم تعمّقت، لكن ثمة نرجسيون لا يهون عليهم دفن الجثة، فيزكموننا بالرائحة!