"عندما حَصلتُ على الأكثر من أحلامي
حصَلتُ على الأكثر من الصحراء
وبعد ما صعدتُ العرشَ والشجّر الخاليةَ منه الدنيا
حواني شَجر البرد
ولم أتحطم ولكني تعبتُ
ولن يبكيني أحد
حقاً
ولن يرتعشوا لغيابي
حقا كما كنتُ حاضرا
ولن يستوحشوا مثل برجِ
ولن يموتوا عليّ موتاَ يضاهي حياتي"
أنسي الحاج
رحل أنسي الحاج. كنت أعرف منذ بضعة أيام أنه في "حالة حرجة". توارى أمير "قصيدة النثر" عن الأنظار بعدما لم يعد يطمئن الى أداء جسده. بعدما لم يعد يستطيع أن يمشي من دون عكاز. بعدما لم يعد قادرا على التحكم بردات فعل معدته على شراب أو غداء.. وهو الذي كان "موسوسا" بـ "صورته" أمام الملأ. لا لنرجسية، كما أتصور، ولكن لأنَّ "الشعرية" تقتضي حرصا راديكالياً على "الجمالية". هي نرجسية إذن؟
نعم.
ولكن كلا. ليست نرجسية "فتى الشاشة"، ليست نرجسية "طربون الحبق"، ليست نرجسية المفتون بنفسه، بل نرجسية الشاعر في مرآة قصيدته التي قد تكون، في حالة أنسي، مرآة ذاته. فهو وقصيدته صنوان. قلة من الشعراء الذين يشبهون شعرهم. أنسي واحد منهم. فهذا الهوس بـ "نظافة" القصيدة هو الهوس نفسه، حسب ظني، بنظافة شخصه. لم أعرف شاعرا "يطهِّر" قصيدته مما ليس شعرا مثل أنسي. يطرد. يشذب. يزيل. كل ما ليس له علاقة بالقصيدة. هناك تعقيم بمحاليل قوية تتعرض له القصيدة في مختبره الداخلي. لذلك تبدو لامعة، نظيفة، ولكن هشة، قابلة للانتكاس بسبب ضعف "مناعتها". لم تكن تهم أنسي "المناعة"، بأي معنى: قوة اللغة، البلاغة، الهدير، التماسك، الصلابة. كان يحب الضعف. يظهره على ما عداه. لأن الضعف أنثى. وهو مفتون بالأنثى. بـ "الرسولة بشعرها حتى الينابيع". هذا نوع من الضعف يفتن أنسي ويثير فيه أقصى درجات الشعرية.
***
توراى أنسي عن الأنظار في الفترة الأخيرة.
قد نكون، وائل قنديل، إميل منعم، حسام كنفاني، ارنست خوري وأنا، آخر من رأوا أنسي الحاج في مكان عام. كان ذلك في مطعم "لاروج" اللبناني ذي النكهة الفرنسية. جاء أنسي يتوكأ على عصاه وعلى إميل. فرحت جدا برؤيته. فقد مضى وقت طويل جدا على آخر لقاء ضمنا. كان شاحبا. نحيلا. عليلا بما لا يخفى على أحد. كنت أعرف أن السرطان اللعين أنشب أظفاره فيه، ولكن قيل لنا إنه خضع للعلاج و"تحسن". مع ذلك، مع ذلك الهزال الرهيب لم يفقد أنسي بديهته الحاضرة، والأهم لم يفقد حسَّه الفكاهي. حكى لنا أشياء أضحكتنا من قلوبنا وأضحكته هو. تناول لقما معدودة من طبق الباستا الذي طلبه (أربياتا) لكنه ما لبث أن استفرغ كل ما في أحشائه. كنت بجانبه. طالني شيء من ذلك. قمت ومسحت ما تساقط على ذقنه وثيابه.. دمدم شيئا. لم اسمعه. كان كأنَّه يستنجد بإله قاس، إله يمتحن خلقه بما لا قبل لهم به. ثم رفع صوته وقال بالعامية اللبنانية: لازم يرموا الناس لما يكبروا بالزبالة!
***
لي علاقة خاصة بقصيدة أنسي الحاج. أزعم أن شعره أثَّر في جيل كامل من الشعراء من دون أن يكونوا على صلة مباشرة بمنجزه. وسيكون هناك من سيتأثرون بالذين تأثروا به. هذا يشبه عمل الجينات التي قد تحمل مورثات بعيدة الى من يتكونون في رحم الغيب.
عندما أمكن لي أن اقرأ أنسي الحاج، قرأتُه مقلوبا: من "الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع" الى "الرأس المقطوع" ولم اقرأ "لن" إلا متأخرا لذلك لم أعرف ترسيمتَه القاطعة لـ "قصيدة النثر" التي بسطها في مقدمة "لن" إلاَّ بعد عملين أو ثلاثة لي، ولم أجد، حينها، ظلالا لتلك الترسيمةَ على أعمال أنسي الحاج نفسه التي راحت تطول وتنحو صوب صوفية مسيحية هرطوقية.
كانت الوصفةُ السحريةُ لقصيدة النثر التي دبَّجها أنسي في مقدمة ديوانه "لن" قد تجاوزها صاحبها.
هكذا كان أنسي الحاج خارج مقدمته وهو يكتب "لن" وأخواتها. صنيعُهُ ليس المقدمةَ، بل شعرُه، وهو وحدُهُ الذي صنع منعطفا مشى فيه، حسب تعبير عباس بيضون، كثيرون.
المشترك الوحيدُ، برأيي، بين مقدمة "لن" وشعره في "لن" (وغيره من أعمال) هو ذلك التوترُ الذي تحسّه يسري في بدنك، تلك القشعريرة التي تنتقل من النص إلى الجلد، وذلك الغضب المنذرُ بالتهلكة حيناً، والرضا الواعدُ بجنة للهراطقة حينا آخر.
لا يشبه أنسي الحاج، على ما أعلم، شاعرا قبلَه، فهو حالة فريدة في عالمها ومعجمها في العربية، والذين مشوا في طريقه لم يواصلوا طريق قاذف اللهب في "لن" و"الرأس المقطوع"، وإنما العائدُ الى نفس لم تبرأ من شقائها الأصلي رغم ضراعتها إلى الخلاص.
سنفتقدك كثيرا يا أنسي.
أيها الأمير الذي لن ينكِّس الموت رايته.