في طريقه إلى المرسم، صادف الفنّان اللبناني مازن خداج شاحنة متوقّفة وبمحاذاتها درّاجة هوائية محطّمة، وحذاء، ودماء. بهذه التفاصيل الأربعة أعلن الموت عن حضوره في طريق الفنّان المعتاد. تابع إلى المرسم، بينما استحوذ الموت على تفكيره، وأغرقه تحته، ليصل إلى المحترف حيّاً - كما يقول - بينما الموت يهيمن عليه من الداخل، ويرسم لوحة بعنوان "فراش الموت"، وستكون هذه مفتتحاً لسلسلة لوحات وأعمال فيديو تتأمّل في الموت، والتي يتضمّنها معرضه "أُنهي لأبدأ".
خمسة عشر عملاً من الأكرليك والمواد المختطلة، تُضاف إليها خماسية من فن الفيديو، تجتمع في معرضه المُقام في غاليري "392 رميل 393" ببيروت حتى 14 آذار/ مارس المقبل.
في حديث إلى "العربي الجديد"، يقول خدّاج إن "اللوحة ببعديها لم تكن كافية وحدها لأتأمّل أفكاري من كل جانب وزاوية". هكذا وجد ضالته في فن الفيديو الذي يتيح له الغوص في ما يفكّر فيه وأن يعيشه فعلاً في تسجيلات الفيديو الأدائية. وبينما تظهر اللوحة حافلة لونياً، يقتصر الفيديو على الأسود والأبيض. عن ذلك يوضّح: "العالم الخيالي ملوّن أكثر من الواقع الذي نعيش فيه، الفيديو أبيض وأسود لأنني هكذا أرى الحياة، لكن أوهامي وأفكاري ملوّنة أكثر من الحقيقة".
يعيش خدّاج منذ سنوات في مدينة لايبزيغ الألمانية حيث يدرس، بعد أن تخصّص في الغرافيك، فن الفيديو والتجهيز، يبيّن أنه ومنذ انتقاله إليها بدأت معتقداته "الروحية" تتبدّل وتتّخذ أبعاداً جديدة. يكمل: "وقعتُ في أسر عالَمَي الوعي والروح؛ ووجدتُ نفسي مأخوذاً بأفكاري وتأمُّلاتي حول الاحتمالات اللامتناهية والأساطير الروحانية التي تلفُّ تلك المفاهيم. أرى أن خلفيّتي التوحيدية الدرزية كانت نقطة البداية التي ألهمت فكرة هذه المجموعة الفنّية. وشكّل مفهوم التقمّصُ شبّاكاً يَفتح أمام جسدي وعقلي وروحي، آفاقاً جديدة أُبحِر فيها".
يشير الفنان اللبناني إلى أن الانتقال من الشرق إلى الغرب جعله يلمس الاختلاف العميق في طريقة التفكير في المسائل الروحانية والغيبية: "في لبنان، كان كلُّ من يحيط بي يؤمن بالروحانيات والدين والغيبيات، أمّا في لايبزيغ فليس ثمّة مَن يشاركني قناعاتي، ووجدتُ أنني لم أعد أتحدّث عنها لأنني لم أجد من يتصادى معها، وأصبحت حريصاً على ابتكار نوع من الهوية الروحية التي تشبهني ولا علاقة بها بالمكان والمجتمعات الشرقية أو الغربية، فكلاهما في رأيي متعصّبان لشيء ما".
سؤال خداج الأساسي كان حول الكيفية التي يمكن أنه يفكّر بها بشكل فردي كإنسان وفنّان في الموت: "أصبحتُ أخلق فرضيات حوله وأترجمها في لوحات وأعمال فيديو".
رغم اغتراباته الجغرافية والروحية، فإن ألوان الفنّان حافظت على شرقيتها ودفئها الذي لا تُخطئ العين انتماءه إلى هذه البقعة من العالم، يعلّق: "طبعاً، الألوان شرقية فعلاً وخطوطي سائلة وسهلة وانسيابية وعفوية، لا شك أن ثمّة رسامين أحبّهم عالمياً، لكني لا أعرف إن كنت متأثّراً بهم؛ بيكاسو وبول كلي وميرو، فأنا أتّكل على حدسي، وبعد نهاية اللوحة أشعر كما لو أنني لستُ من رسمها، تفاجئني وأشعر أنها تساعدني في اكتشاف منطقة لم أكن أعرفها عن ذاتي".
أما الفيديو فخماسية تعكس الصراع بين التقاليد، والثقافات، والأديان المختلفة: "إنّه صراع الوجود، صراع تكوين هويةٍ ومُعتقدٍ يشبهانني أينما كنت، سواء في ألمانيا أو في لبنان". يتابع: "أصوّر نفسي وحدي، من دون مساعدة، وفي هذه التسجيلات الأدائية نوع من التلقائية والنقاء".
من جهة أخرى، يقول مازن خدّاج لـ "العربي الجديد" إنه يشعر بأن "الرسّام في داخلي شخص وصانع الفيديو شخص آخر؛ وهما مختلفان ولم أتمكّن من التقريب بينهما كما لو أن هناك شخصيتين. إنه نوع من الفصام الفني إن شئت"، مختتماً: "في "أُنهي لأبدأ" بحثٌ عن أسئلة مُعلّقة من دون أجوبة، وسعيٌ لفهم هويةٍ متقلّبة".