بادئ ذي بدء، نُشرت فصول هذا الكتاب على شكل مقالات في صحيفة "الزوبعة" التابعة لـ"الحزب السوري" في الأرجنتين، فكانت أشبه بزوبعة فعلاً، أو عاصفة نقدية لا نجد لها مثيلاً في كتابات تلك الأيام. إلا أن هذه العاصفة كما يبدو لم يتردّد لها صدى إلا في دوائر ضيّقة، وظلت سجينة صفحات هذا الكتاب، أي سجينة زمنها، كما يحدث أحياناً حين تختفي بذور شجرة في أعماق رمال الصحراء في انتظار قطرات مطر قد تأتي ولا تأتي، ومع ذلك لا يصيبها اليأس من أن يأتي يوم يتحوّل فيه سراب الصحراء إلى ماء دافق.
صحيح أن المتابع قد يجد بين سطور عدد محدود من أدباء النصف الأول من القرن العشرين شيئاً من الصدى، كأن يصادف مصطلح "الأدب الحيّ"، الذي هو لب كتاب أنطون سعادة، في سياق التعبير عن التوق لأدب نابض بالحياة غير أدب "الكتب"، لدى الشاعر العراقي محمود البريكان أو في أعمال النقد الأدبي للمصري سيّد قطب، أو كما سيترجم إلى "الأدب للمجتمع" لدى محمود أمين العالم، أو في بيانات الشاعر يوسف الخال صاحب مجلة "شعر"، إلا أنه لن يجد أطروحة الكتاب كاملة، أو متابعة لها إلا على نحو مستتر أو متردد.
فما هي هذه الأطروحة التي طمرتها رمال ذلك الزمن وماثلنا بينها وبين بذرة هاجعة تنتظر أن تأتيها قطرات مطر أو لا تأتي؟ يضم الكتاب مجموعة مقاربات تجري تحت العناوين التالية: "تخبّط وفوضى"، و"تجديد الأدب وتجديد الحياة"، و"من الظلمة إلى النور"، و"طريق الفكر السوري"، و"طريق الأدب السوري".
يبدأ سعادة تحت العنوان الأول بمناقشة مراسلات أدبية بين ثلاثة أدباء سوريين، هم أمين الريحاني ويوسف نعمان معلوف وشفيق معلوف، ويرى أنها تمثل نقصاً فكرياً كبيراً في ما تداولته من آراء ونظريات في الشعر والشاعر. ويشعر بالحاجة إلى درس يتناول موضوع الأدب في أساسه "يجلو الغوامض الكثيرة التي أشوت فيها سهام الرماة، وضاعت مجهودات الكتاب".
ويقول: "كان موضوع الأدب يلوح أمام ناظري، ويطل من وراء المشاكل الإدارية والنفسية والسياسية التي تعرض أمامي، ولم أكن أجهل علاقة الأدب بهذه المشاكل، وإمكانيات تذليلها بإنشاء أدب حي... وكم كنتُ أتألم من تفاهة الأدب السائد في سورية، وأشعر أن فوضى الأدب وبلبلة الأدباء تحملان نصيباً غير قليل من مسؤولية التزعزع النفسي والاضطراب الفكري، والتفسخ الروحي المنتشر في أمتي... وكان هذا التألم يحفزني لانتهاز كل فرصة عارضة للفت نظر الأدباء الذين يحدث بيني وبينهم اتصال إلى فقر الأدب السوري، وشقاء حاله، وفداحة ضرره".
ويمكن تلخيص مآخذه على أصحاب المراسلات الأدبية، أولاً، بالتعميم والإطلاق في أحكام الريحاني اللذين يجرفان الكثير من التفاصيل التي تبقى الحقيقة الكبرى الأساسية ناقصة نقصاً كبيراً من دونها، وثانياً، بآراء فجة أو مبتسرة مستمدة من الحياة الأميركية العملية ذات الطابع الأنغلوساكسوني وليس فيها شيء من العمق لدى يوسف معلوف، وثالثاً، بخلوها من النظرة الفلسفية أو التاريخية لدى شفيق معلوف. ويرى في كل هذا تضارباً وتخبطاً في حقيقة الشعر وصفته، لا يقتصران على الثلاثة بل يشملان أكثر الأدباء اللامعين إن لم يكن كلهم في العالم العربي.
ثم ينتقل إلى نماذج من مصر، فيوجه سهام نقده نحو محمد حسين هيكل وخليل مطران وطه حسين والعقاد، فيرى في نظرة هيكل إلى الفن من زاوية التقسيم بين شرق روحي كله وغرب مادي بكليته، سطحية لأن الروحية والمادية من نصيب الشرق والغرب كليهما، وفي آراء مطران اجتزاءً لحاجة اللغة إلى ضروب التعبير السليم، وفي تعداد طه حسين لما يسميها "نواقص النهضة الأدبية" كلاماً شكلياً، وفي تعليق العقاد قيمة الأدب على نشر الكتب والترجمة وغير ذلك من أمور، سطحية لا غير، ويخلص إلى القول: "إنك لو جمعت جميع الآراء والأقوال المتقدمة وأمثالها... لما حصل لك منها غير اضطراب في الفكر وتشتت في الشعور يحرمانك من إدراك حقيقة الأدب عموماً، والشعر خصوصاً، ورسالة الفن".
وبعد توجيه هذه الانتقادات، يأخذ سعادة بتقديم ما يرى فيه الخلاص الحقيقي من التخبط والفوضى تحت عنوان "تجديد الأدب وتجديد الحياة". ومن هذا العنوان يبدو واضحاً سبب اتهام آراء من تناول من أسماء بالسطحية والتعميم، وهو عدم ربطهم تجديد الأدب بتجديد الحياة ذاتها. يقول: "الأدب كله من نثر ونظم... لا يمكن أن يُحدث تجديداً من تلقاء نفسه، فالأدب ليس الفكر عينه، وليس الشعور بالذات... التجديد في الأدب مسبَّبٌ لا سبب، هو نتيجة حصول التجديد أو التغيير في الفكر وفي الشعور، في الحياة وفي النظرة إلى الحياة". ومن هنا يرى أن التجديد لا يحدث إلا "نتيجة حصول ثورة روحية، مادية، اجتماعية، سياسية، تغير حياة شعب بأسره، وأوضاع حياته، وتفتح آفاقاً جديدة للفكر وطرائقه وللشعور ومناحيه".
وتحت عنوان "من الظلمة إلى النور"، يتناول عملين لسعيد عقل، الشاعر الذي انضم إلى الحركة، أي "الحزب السوري القومي الاجتماعي"، فيرى في ملحمة "بنت يفتاح" موهبة شاعر، ويضيف: "إلا أنها خارجة عن المواضيع السورية، وعن خطط النفس السورية... ومع كل الشاعرية الجيدة الظاهرة في الملحمة، لم أجد فيها ما يمكن أن يفتح للأدب السوري مدخلاً جديداً". ويشدّد أيضاً على أنه لم يطق قراءتها كلها "لأنني وجدتها تخدم موضوعاً غريباً عن المواضيع السورية، مختصاً باليهود أعداء سورية".
ويتكرر لدى سعادة التلازم بين "القدرة الإبداعية" المطلوبة للأمة "السورية"، وبين ما يسميه تارة "النفسية السورية" و"المثل" و"المطامح" السورية، في ما يشبه الحديث عن "جواهر خالدة" متأصلة لهذه الأمة السورية. ويشرح هذا بوضوح حين يشير إلى مقالة له حملت عنوان "أدب الكتب وأدب الحياة"، التي قصد منها لفت النظر إلى "أن ما نحتاج إليه هو أدب الحياة" أي "الأدب الذي يفهم حياتنا ويرافقنا في تجوالنا ويعبّر عن مثلنا العليا، وأمانينا المستخرجة من طبيعة شعبنا ومزاجه وتاريخه وكيانه النفسي ومقومات حياته".
ومن هذا المنطلق يستكمل تحديد "طريق الفكر السوري" و"وطريق الأدب السوري" وهما طريقان متلازمان كما هو تلازم الفكر والشعور في أطروحات كل نقّاد تلك الأيام، ولكن بشرط أيديولوجي لا غنى عنه "الاتصال بنظرة إلى الحياة والكون والفن جديدة تجسم لنا مثلنا العليا، وتسمو بها، وتصوّر لنا أمانينا في فكرة فلسفية شاملة تتناول مجتمعنا كله، وقضاياه الكبرى المادية والروحية من اجتماعية واقتصادية ونفسية وسياسية وفنية".
وبعد كل هذا، واستناداً إلى فرضية أن للأمة، أي أمة، جوهرا ثابتا غير تاريخي، لا يترك مجالاً للشك بأن الطريق إلى أدب حي وشعر مبدع وفن يحتل مركزاً عالمياً، إنما هو في بعث هذا الجوهر، أو السير على هدى خططه التي يضعها الحزب المعبر الحقيقي عن هذا الجوهر.