في النظر إلى ماضي الوسط الثقافي، أمثولة نتعلم منها أكثر من درس. كان من جملة ما أتقنه صناعة الموت الأدبي لكثير من الأدباء وهم على قيد الحياة، وإذا كرّمهم فلأنهم قاربوا أن يغادروا عالمنا. وفي حال تذكرهم، فلأنهم رحلوا عنا غير آسفين. كذلك العجز والشيخوخة والمرض المستعصي، يسلّط عليهم أضواء الإعلام. مؤخراً أخذ يُظهرهم في وسائط التواصل الاجتماعي، والمواقع الثقافية، للأسباب ذاتها، طبعاً لن تدوم، فهذه الوسائل ذاكرتها غضة، كما أنها معرضة للنسيان.
لا يجوز المبالغة في إعادة الاعتبار للأموات، فهي لا تعدو أكثر من مجاملة ثقافية شائعة، لا تزيد مدتها عن المناسبة نفسها. كما أنهم لم يعودوا يشكّلون خطراً على مناصب الأحياء في اتحادات الكتاب، التي أخذت على عاتقها التغييب والتعتيم والنبذ حسب برنامج انتقائي لا يوفّر أديباً مستقلاً من الإلغاء، وهو بمثابة القتل الرحيم، بالمقارنة مع القتل الآخر غير الرحيم، الذي تتولاه أجهزة، لا توفر إهانة ولا شتيمة، إن لم تهدد وتتوعّد وتقتل.
القيّمون على الثقافة، لم يسترح لهم بال بالاستيلاء على المنابر الأدبية في الصحافة والأنشطة الثقافية، مسؤولياتهم تتعداها إلى تصدير الأدب الرديء على أنه جيد، والإشراف على إجراءات التطويب أو المنع، وتوزيع شهادات الطاعة والإدانة. فالسلطة الأدبية المطلقة، يساندها مزيج مُحكم من أيديولوجيات المقاومة والممانعة، مع الاستعانة بأجهزة أمنية تتقن أيديولوجية التعذيب، كانت وما زالت الأكثر مردوداً وإقناعاً.
عموماً، وسائل السلطات متشابهة. هذا لئلّا نأخذ اتحادات الكتّاب على محمل البراءة. ما جرى من قبل، قد يتكرّر من بعد. فالتنازع على المنافع والمناصب، تصيب كل تجمّع يهوى أفراده التسلق الى القمة خلال زمن قياسي، لذلك قمع الآخرين ليس خياراً، إنه واجب، فالقمة لا تتسع إلا لواحد فقط، يحيط به أمثاله يهلّلون له، وينتظرون أدوارهم في كواليس المخابرات، جرياً على قاعدة التوريث الشاملة.
أما القتل الأدبي المتعارف عليه عالمياً، وسيكولوجياً حسب نظرية "قتل الأب" لفرويد، فهو تمرّد الأدباء الشبان على آبائهم، فيعمدون إلى قتلهم رمزياً، ليتحرّروا منهم فكرياً. بينما في الواقع يلغونهم من الوجود. وقد يتعدى هذا النوع من التمرد الطرافة السوداء، فالأدباء الشبان في بلادنا الذين لم ينضجوا بعد، لا يعتبرون من سبقهم، آباء لهم. تصريحاتهم حولهم تأخذ طابع الإنكار، يدّعون أنهم جيل بلا آباء، ويفضلون الانتساب إلى الغرب، والاعتراف بأبوّته. وقد تبلغ بهم حمّى طلب الشهرة والتفرّد، الاعتراف بأنهم لقطاء بلا آباء ولا أمهات. ما يثير قضية الآباء المستوردين، وهي قصة أخرى.
مغزى القول، إن بعض الأدباء فضّلوا الانتحار لئلا يواجهوا مصيراً، يحيلهم إلى عدم الوجود، في حين أنهم موجودون. فالأدباء لا ينتحرون دائماً لأسباب عاطفية، أو نفسية، أو توقاً إلى العدم، وإنما أيضاً احتجاجاً على الإهمال وعدم الوفاء، وخيانة من كانوا يوماً رفاق الدرب.