أكثر ما يظهر اليوم، بين الكتّاب والفنانين السوريين، بعد مرور قرابة سبع سنوات على انطلاقة الثورة السورية، هو الصراع الفني في حقول الإبداع المختلفة. وقد ظهرت بوادره في الأعمال السينمائية والتلفزيونية التي أنتجت من كلا جهتي الصراع. والراجح أنه سوف يحتدم في السنوات المقبلة.
ومن المتوقع أن تُزج الرواية في مثل هذه الاقتتال أيضاً. ولكن هذا الأمر يبدو أكثر تعقيداً في الرواية، إذا ما قورنت بغيرها من الفنون، فهي الفن الكتابي الذي يتطلّب سعة في الرؤية، وفي استقلالية الشخصيات، عن رأي الكاتب، حتى تستطيع أن تظهر مكتملة.
وفي الرواية، يمكن أن يختلف موقف الروائي عن مواقف الشخصيات، إذ يبدو أن عليه أن يقدّم وجهات نظر لشخصيات روائية لا تتسق مع وجهة نظره في الحياة والسياسة والدين والمجتمع. ويتطلب مثل هذا الموقف كثيراً من الشجاعة الأخلاقية، والموهبة الفنية. وهناك من يطلق على الروائي صفة الخالق. وإذا كان خالقاً، فإن عليه أن يأخذ مسافة متساوية من الكائنات التي خلقها. ويبدو الأمر من الناحية التقنية أو الفنية متفقاً عليه بعد التطور العميق الذي شهده تاريخ الكتابة الروائية، غير أنه يزيد في صعوبة الموقف أمام الروائي، في المواقف الحياتية.
كيف سيفصل بين موقفه من موضوع يعتبره عدواً له، وبين الشخصية التي تمثله؟ وهل يستطيع الأدب أن يكون محايداً؟ كما أنه يضع القارئ أمام سؤال مثل: من مِنَ الشخصيات يمثل الروائي في الرواية التي تحوز شروط الفن، ومن يمثل النقيض؟
وإذا ما أخذنا رواية "ميرامار" لنجيب محفوظ مثالاً على تجربة الكتابة من خلال وجهات النظر، فإننا نرى أن الروائي قد تمكن من الاختفاء جيداً كصوت - أو كموقف ووجهة نظر - خلف شخصيات روايته، ومن الصعب معرفة أي الشخصيات في الرواية هي التي تمثل وجهة نظر الروائي. لكن الرواية مكتوبة بمهارة تمنح القارئ الفسحة اللازمة كي يختار الموقف الذي يمثله تجاه أحداث الرواية.
وحتى اليوم لم نواجه مثل هذه القضية الفكرية والفنية في أدبنا السوري، أي لم نشهد التباساً في الروايات السورية التي قاربت موضوع الثورة، فمن الصعب أن يستطيع الكاتب الحياد في لحظات المعارك.
لكن الموضوع لن يمر من دون أن يخوض الروائيون فيه. في حين يشتدّ الانقسام، الذي يأخذ منحى عدوانياً سافراً، بين الروائيين والشعراء والنقاد السوريين الذين أعلنوا العداء للثورة، وبين الذين أيّدوها وشاركوا في أحداثها. وقد بدأ أكثر من كاتب، وخاصة على جبهة الموالاة، في اعتبار كل من ناصر الثورة ليس كاتباً.
وثمة بيانات وخطابات منبرية ومشاركات في وسائل التواصل الاجتماعي، تتوغل في مثل هذه الدعوات لنفي الكاتب المعارض أو المختلف من سجلات تاريخ الأدب أو الفن. وهناك من يسعى لمحاكمة الأدب بمفعول رجعي يعود إلى عقود.
سبق للشاعر الفلسطيني الراحل معين بسيسو أن كتب في مسرحيته الشعرية "ثورة الزنج": "الحبر الواحد يقتل/ واللون الواحد يقتل/ والاسم الواحد يقتل/ والوجه الواحد يقتل/ والقلم إذا ضاجع محبرة واحدة يقتل".