1.
هناك في أعالي السماء يُقام حفل: فوانيس تسطع، وشيوخ يلبسون ربطات عنق يعزفون مقطوعاتهم الأكثر بهجة في الأوركسترا، ويشرب المضيف النخب. ولكن لا سلالم يمكن للمدعوّين النزول منها، يبقون حتى الصباح التالي. نبقى على غير المتوقع في الزاوية ننظر نحو الأسفل – فنرى مقدّمات الأحذية تعكس نظرات قطّاع طرقٍ. ثم ننظر نحو الأعلى – فنرى الأسنان الذهبية تطقطق. منازل الأحياء تبقى بعيدة عن هنا. إن بلغنا الحجر الأخير، استيقظ الوشق.
2.
رأى الوشق في منامه غابات التايغا. ظل يفكّر في أسلافه الذين كان جوعهم أكثر شدة من حماسة الصيّادين، وأكثر شدة من العظام البشرية التي تطقطق تحت أنياب الشتاء كالصّوفان في النار. أمعرفة الاسم ذاته أكثر أهمّية من الجوهر؟ أسنانٌ مصطكّة تشطر الليل إلى نصفين. في التلفاز يُدرّس كيف تشيخ. ويبقي الظمأ أكثر عمقاً من ينبوع الماء.
3.
صوت الماء يوقظ دائماً. المطر أو زخات البرَد، قطرات صنبور ماءٍ لم يغلق جيداً. وحيدة وعارية فوق السرير، بفم جاف ورغبة في التبوّل. تودّين لو أن السماء تبتلعك وتبصقك في مكان مغاير. داخل الصوت هناك فراغ، فضاءٌ حيث تختبئين مثل عزلة السنجاب الطائر الوحيد. إذ صحيح أن أفضل ما تتقنينه هو التوغّل بين الأغصان، نعم بين الأغصان، والاختفاء.
4.
بعد سنوات عثروا على ساعة الجد في العلية. الوشق يحقّق في دقات عقارب الساعة التي تذكّره بأن معدته فارغة. في الليل يغيّر ملابسه، ويضع ساعة الجيب في سترته ويتزوّد في المطعم الأكثر أناقة في المدينة. الليل يلتهم بشراهة جوع العشاق، ونحن لا نرى في الأمر سوءاً، نقتصر فقط على شدّ بعضنا بعضاً من العظام، بشكل أقوى كل مرة. إنها مصقولة ومفرطة في الأناقة والنظافة، مع بقية قرابين القبر. كلاك- كلاك، نرقص حتى الفجر.
5.
رحلة السنجاب الطائر الصامتة بين جذور اللّيل الكثيفة. التنفس الثقيل للأشجار، الشائعات المثيرة لرئتين متعبتين. ضجيج آلات من بعيد، في الطريق، الوادي مثل مريء، يُسافَر عبره. في المقعد الخلفي يجلس الوزير، أصابعه السمينة متعبة من ثقل الأقلام، وعيناه غمازتان، في لمعانه الغريب إيمانٌ بأن جوع اليوم يتجاهل شبع الأمس.
6.
نحن أسرى الماء والحلم والأخبار. تقشّر أحلام الأمس، لتجد فيها سُلّماً - ربما قد تجرؤ اليوم أخيراً على تحدي الفراغ المغرور لضوء النهار. ترغب في أن لا يتوقّف عليك أي شيء، وأن تستطيع نسيان نفسك في جوف الوجود، مثل زهرة ربيع مأخوذة صدفة في الساقية. الصورة الثابتة في الشاشة التي تتلألأ: من الفم نصف المفتوح لمذيع تلفزيون يسيل الظلام المطلق للقرون مدوياً. في الأشجار، تحتضن خواتم العمر الضيّقة الأرض الساخنة، ها قد وصلنا - يتمتمون – إلى قدرنا متعفّنين.
7.
الليل يراكم ظلاماً في فجوات الأشجار. وأنا أصمّم، أرقي وأشكّل دائرةً غير مكتملة، وألصقها في السماء. تودّين أكل ذلك القمر الذي يقطّر دهناً، ولكن لونه الأبيض يوقظ فيك الحذر. يبدو كما لو أن ظلال الرسومات الغريبة التي يتركها الناس على الثلج المداس بالأقدام أو فوق العشب - أخفّ من الجفون، وكما لو أن الماء لم يستطع أن يغرق ذكرياته حين يضرب. ماذا سيحلّ بحلمنا وبجوعنا صباحاً، عندما تضغط السماء على مقربة من الأرض، وتريد الكتابة فوق آثار أقدامنا جميعها؟
8.
تجلس إلى المائدة وتغيّر مكان الشوكة والسكين وعلى الفور تصعد صوب الأعالي. بالفعل، في الطفولة كانت لديك أشكال مرصّعة بالنجوم في عصيدة الحبوب. الليل يثرثر دون انقطاع حول شهيته المتجمّدة. في معطف الشتاء، تصير النقط شامات، وترتخي كماشة الغابة، وتتنازل، ثم تترك مساحة لسلاسل جديدة. حاول أن تتذكّر هذا الشعور، وهذا الوعي الغامض الذي وجدته بين أغصان الصنوبر، في جو الشتاء الحاد حين كان الأنف ينتصب نحو السماء كبرج جرس كنيسةٍ. أوركسترا مواهب متوحشة، كورال من همسات تتضاءل. أنت في جدار الأسماء الحركية، الشفق الصامت لنبات القيقب، والينبوع الذي لا يمكن التخلي عنه.
* Carolina Pihelgas شاعرة إستونية من مواليد عام 1986. أصدرت خمس مجموعات شعرية، آخرها "تفاصيل ما هو مظلم" التي نشرت عام 2017. تشارك الشاعرة في "ملتقى آسفي الدولي للشعر" في المغرب والذي يُختتم غداً.
** ترجمة إبراهيم اليعيشي