أثناء نشأتي لم أقضِ الصيف أبداً في غزّة. كنا دائماً ما نغادر تكساس في طفولتنا إلى عمّان، حيث كانت تعيش أمي بعد مغادرتها القدس في 1956.
ارتبط لغز غزة دائماً في ذهني بأبي الذي لم أعرفه أبداً في الحقيقة. كانت رمزاً للمجهول، ذلك المكان القصيّ الذي عاش فيه طفولته بعد تدمير قريته "بربرة" التي تُسمى الآن "آشكيلون"، على يد إسرائيل في 1948. القرية التي تقع في الضواحي الشمالية للمدينة الساحلية.
وعندما عاد أبي إلى هناك، قبيل بلوغي التاسعة من عمري، ليقضي ما تبقى من حياته، تحوّلت غزّة إلى شعورٍ بأن شيئاً ما كان ما يزال مخبوءاً عنا جزئياً.
لم أسعَ إلى الحصول على فهم أوضح لسبب مغادرته لنا حتى أوائل العشرينات من عمري. كنت في رحلة إلى فلسطين صيفاً، سافرتُ من رام الله إلى "معبر إيريز" لمقابلته، لكني احتِجزت لخمس عشرة ساعة قبل أن يُمنع دخولي. مات أبي بعدها بسبعة شهور. وكانت تلك محاولتي الوحيدة للذهاب إلى غزّة.
مرّ عقد تقريباً منذ ذلك الحين، ومع استمرار الحصار والقصف الأخير على قطاع غزة، عُدت إلى علاقتي بهذا المكان، ليس فقط لما أشعر به من استنكار للكارثة الجارية، ولكن كذلك لما أحدثه رحيله في نفسي.
في هذه المرة فقط قررت أن أتخطى علاقتي الشبحية مع أبي وباقي عائلته، وأن أحزن حداداً على غزّة.
***
لم أرَ بيت أبي حتى الآن. أرسل لي أحد أبناء عمومتي صورة للبيت الذي بناه أبي في "بيت لاهيا" بعد زواجه للمرة الثانية. كان قد قُصف في الأسبوع الثاني من الغزو الإسرائيلي لكنه لم يُدمر. وعبر الرسائل النصيّة بدأ أشقائي الأكبر سناً في تبادل الذكريات عن البيت كما يفعل الناس بعد موت صديق مشترك.
يتذكر أحد أخوتي كيف كان أبي يجلس يومياً بالخارج في أحد الشرفات غير المرتبة، يدخن سجائر نعناعه العزيزة. وبشكل ما فإن صورة بيته تستثير حداداً جماعياً.
تلك كانت المرة الأولى التي أفكر فيها بموت أبي منذ وقت طويل. لا أملك أية ذكريات سعيدة لأشاركهم بها، لذلك أبقى صامتة. وبينما أسترجع ذكرى نوافذ المنزل المتفحّمة، أحاول أن أجد معنىً لكل ما يحدث، وأشعر بالحنق. ليس ذلك شعوراً سيئاً وإنما هو شعور بالحسد السافر؛ حسد لأنّي لا أمتلك أيّ ذكريات عن تلك الشرفة كأشقائي وشقيقاتي الأكبر سناً، ولعدم معرفتي بما يبدو عليه المنزل من الداخل.
ومع انكشاف المزيد من التفاصيل في مجموعة مراسلاتنا العائلية، أجدني غاضبة لعدم قدرتي على التمييز بين أبناء عمومتي، ولأني الآن أكتفي بسماع الحكايات من الأعمام والعمّات. عادةً ما تدخل أسماؤهم فضاء شجرة عائلة افتراضية أنشأها أخوتي وأخواتي في رسائلهم النصية المتبادلة. هم يتواصلون مع بعضهم البعض يومياً للتحقق من سلامة أبناء عمومتنا، ولكن الأسماء تتداخل، وأبدأ في الشعور بالارتباك.
كنا في تموز/يوليو، نشاهد غزّة على شاشاتنا، نتحدث ونتراسل بينما تشتعل البلدات. أنا من باريس، وأخي من دبي، وأختي في عَمّان، وأمي وستة آخرون من أشقائي في هيوستن.
وفي يوم ما، يرنّ هاتفي برسالة من أختي تخبرني أنّ واحدة من أخواتنا غير الشقيقات، ج، محتجزة في غزّة. "هي حامل في الشهر التاسع ولا يمكنها الخروج". سألت عن مكانها، فردت أختي "في مكان ما بالقرب من رفح". منذ سنوات غادرت عائلة ج (زوجة أبي الجديدة وثلاثة أطفال آخرين) غزّة للعيش في عمّان، حيث بنى أبي بيتاً ثانياً.
أنجب أبي مزيداً من الأطفال، ولكني لا أعرف حتى أشكالهم، فأنا الوحيدة التي لم تقابلهم، لأني الأصغر سناً في عائلته الأولى. قبل تدمير مطار غزّة، سافر أشقائي وشقيقاتي الأكبر سنّاً عدّة مرات لزيارة أبي، الذي كان مريضاً أغلب الوقت، ودائماً ما كنت أتخلّف عنهم.
أثناء نشأني، كنت أفكر كثيراً في غزة، ما الذي جذب أبي للعودة؟ هل كان شاطئ البحر المتوسط؟ ما نوع الحيوات التي يعيشها الناس في ذلك المكان المكتظ والمعذًب؟ لماذا كان ذلك المكان يعني له الكثير؟ ربما كان ذلك بدافع من الفضول أو الحنين لذكرى لا يمكنني الحصول عليها.
أرسل إلى أمي لأسألها إذا ما كانت لديها صور من غزّة. تمرّ عدة أيام قبل أن تجد سلسلة من الصور الفوتوغرافية الباهتة وترسلها. كانت إحدى اللقطات الشاحبة لأبي وهو يحمل اثنين من أشقائي الأكبر سناً على الشاطئ. تموج الأمواج خلف الرجل المبتسم دون قميص.
صورة فوتوغرافية أخرى لعدة أطفال يخوضون في البحر، وقتها كان البحر ينتمي إلى غزّة، ولم تكن الطائرات بلا طيار تطنّ في السماء. كان ذلك في العام 1974، حين قام والداي برحلتهما الأولى عائدين شرقاً بعد انتقالهم إلى شيكاغو في أواخر الستينيات، حيث أنهى أبي حينها دراساته العليا ليصبح مهندساً. كانا يقضيان الصيف في غزّة.
***
باريس متبرّجة وجميلة، ولكن يمكن لرائحتها أن تكون كريهة، خاصةً بعد المطر. الكسرولة التي تحوي ماء المطر، الذي يهب من نافذتي المفتوحة، مخلوطاً بالتلوث تدفعني للعودة إلى غزّة مرة ثانية.
من الصعب تخيل ذلك، ولكنّي أفكر في الرائحة التي يمكن أن تكون لأماكن مثل الشجاعية وخزاعة، مع شروعي في تعبئة حياتي في صناديق لتُشحن إلى بروكلين في نيويورك. رفوف التخزين عندي عامرة بالطعام والتوابل التي لا أحتمل التخلص منها. أسترجع غزّة على شاشتي، لأقرأ أخباراً عن مزيد من التراجيديا.
أعود لمعاينة صفوف الطعام على الرفوف، وأفكّر في كل المَعِدات التي تطنّ بالجوع عند الغروب. إنه رمضان على كل حال.
يضيء الهاتف الذي ضبطته على وضعية الصامت، لأجد بأن أخي يشارك صورة لأبناء عمومتنا مجتمعين لقضاء عطلة عيدهم. أرى خمسة خيارات وبضع شرائح من الخبز مع أربع حبّات من الطماطم في أيدي الأطفال؛ وتسعة أشخاص يجلسون بصبر في انتظار الطعام.
تموز/يوليو يكاد يقترب من نهايته بينما أكبر أخوتي غير الأشقاء ج تلد ولداً. تكتب إحدى أخواتي منشوراً احتفالياً على الفيس بوك تقول فيه "في غزّة.. أختي تعيد الحياة إليها". أتأمل المولود، وأتفحص كلمة "أختي" بدقة، وأبحث عن تشابهات جسمانية، ولكن لا أجد أياً منها.
***
لكلّ مكان شُهرته. بالنسبة لغزّة، يعني ذلك أنك صلب العود، لذا لم أرَ شيئاً محراجاً في قصة خالتي التي كانت تحمل سكّيناً صغيراً في حمالة صدرها. وجدت تلك القصّة مضحكة، ورأيت أنه من اللطيف مشاركة تجارب عائلتي الغزّاوية؛ هذه قصص تخلو من الخطابية التقليدية عن حال الفلسطينيين "الراسخين" و"الصامدين" في غزّة.
كان لأمي رأي آخر. فعندما شاركت قصة عن خالتي التي هدّدت بإشهار السكّينة في وجه جدّتي، طلبت مني أن أحذف القصة من الفيس بوك. قالت "أنتِ تسيئين إلى عائلة أبيكِ". دافعت عني أختي، وكتبت "ولكن يا أمي، عمّتي حملت أحمر شفاهها هناك أيضاً، العديد من النساء يحملن أشياء في حمالات صدورهن. لقد كانت أشبه بحقيبة اليد!".
ورغم عدم قدرتي على تكرار أسمائهم دون استشارة هاتفي، فأنا في طريقي لتعلُم المزيد عن عمّاتي وأعمامي وأبناء عمومتي. ما تزال توجد بعض الفراغات في الحكاية، ولكن الباب في طريقه للانفتاح، وبدلاً من إغلاقه كما كنت أفعل في الماضي، ها أنا أتركه موارباً.
أكتشف، على سبيل المثال، أن أبناء عمومتي هم من أقنعوا أبي بالعودة. يقول أخي "أخبروه أنه سيكون ربّاً للعائلة، وصدّق ذلك، ولكن الأمور لم تجر كما أراد في النهاية. شعر أبي أنه قد تعرّض للاستغلال".
في هذا عزاء على نحو ما. ليس لأن أبي جرى التلاعب به، ولكن لأن رحيله عن هيوستن وعن عائلته كان قراراً لم يتخذه من تلقاء نفسه. كنت أعرف أنه لم يكن أبداً سعيداً حقاً بعد انتقاله إلى هيوستن من المملكة العربية السعودية، ولكن كان من الصعب معرفة السبب، فقد كنت بالكاد أتحدّث معه حتى عندما كان موجوداً.
ربما كان أصغر من أن يتقاعد، أو ربما لأن مشاريعه التجارية فشلت الواحدة تلو الأخرى. فقد كان متحمساً لشراء منتجع ترفيهي أحببنا الذهاب إليه في طفولتنا. كان يُسمى "روك آند رانش"، وكان يحتوي على حمام سباحة، وسيارات التصادم مثل الملاهي، وجولف مصغّر، وطاقم مطعم يطبخ الشواء على الطريقة الجنوبية. إلا أنه تعرّض للاحتيال وخسر العقد.
ما أعرفه بالفعل أنه كان عنيداً، لأنه كرّر ذلك ثانية، فبدأ مشروعاً تجارياً لا يعرف عنه شيئاً، متجر للفيديو هذه المرة، فقط ليشهد خسارته.
ثم في صيف ما، قال إنه ذاهب إلى غزّة. أحياناً أظنّ أن الاكتئاب المزمن كان دافعه للرحيل. استمر غضبي عليه طيلة سنوات مراهقتي، ليس لافتقادي إيّاه أو لشعوري بالخيانة، ولكن لأني شهدت كيف عانت أمي بسبب ذلك، ولذلك لا أستطيع مسامحته.
***
وكلما بدأت أشعر أن استنزافي جسمانياً أقل، آملةَ أن إسرائيل ستتوقف في النهاية عن إسقاط القنابل على غزّة، يبدأ كل شيء من جديد. كانت لأقاصيص الكآبة بَصْمتها على شهري تموز/يوليو وآب/ أغسطس بما يفوق توقعات المرء عن قدرته على التحمل.
لا يزال من الصعب اليوم تكوين فكرة مناسبة عن الدمار الذي تعرّض له الفلسطينيون من رجال ونساء وأطفال. أعرف أنهم ما يزالون يعانون، بما في ذلك أبناء عمومتي وأخوتي غير الأشقاء وغيرهم، وأنّ الفظائع الناتجة عن الخراب الذي ألحقه الإسرائيليون بالمكان، هي أمر واقع لن أعرف أبداً كيف أترجمه.
أعرف كذلك أن عودة أبي إلى هناك كانت بناءً على خبرة شخصية جداً، خبرة لن أستطيع أبداً الإلمام بها أو فهمها بالكامل، ولكنها خبرة يمكنني على الأقل تقبُّلها.
كانت غزّة وطناً لأبي. ربما ما أزال أشعر كما لو كانت حيّزاً فارغاً بالنسبة لي، ولكن حياة جديدة تتحرك أسفل هذا الفراغ، وها أنا أبدأ بحثي عن أشياء أسدّ بها هذا الفضاء الأجوف.
وأخيراً تبدأ أفكاري في الحركة أبعد مما هو عائلي، وصولاً لفهم متشابك لما ستكون عليه الأشياء بعد نهاية القيامة. أفكّر في غزّة بما يتجاوز اسم العائلة الذي أتشاركه مع عشيرة من الفلسطينيين.
أُختي عندها خطط بالفعل لما بعد كسر الحصار. لديها توأم من ولدين، عمرهما عامين، وعندما أجلس لأكتب، يرنّ هاتفي برسالة، تقول "قريباً، سيستطيع أولادي قضاء أصيافهم في غزّة".
أردّ عليها: "أنا أيضاً آمل أن أقضي الصيف هناك".
* سوسن حمّاد كاتبة فلسطينية تكتب بالإنجليزية، مقيمة في نيويورك.
** ترجمة عن الإنجليزية شادي عبد العزيز