الشائع أن ما يشدّ القارئ إلى قضاء عدّة ساعات في قراءة رواية، هو كونها من روايات الإثارة البوليسية، أو الجاسوسية. أمّا الروايات الرصينة، فللمهتمّين بقراءة الروايات الاجتماعية والتاريخية، والرومانسية، والخيال العلمي، ولا ننسى الروايات الفلسفية والسياسية والنفسية... هذا للذين يهوون التصنيفات، مع أن عالم الرواية خليط من هذه الأنواع، يجمعها أن الإنسان محورها مهما كان الحدث، تاريخياً أو معاصراً.
بعض النقّاد يصرّون على التمييز بينها. لكن في امتزاج مصائر البشر بالتشاؤم والأمل، والحيرة الوجودية، وفي بحث الإنسان عن الحقيقة، وتأمّل الحياة، ومحاولة إسباغ المعنى عليها؛ يبدو كأن الروائيين يكتبون رواية واحدة عن الوجود الإنساني.
يضع النقد الرواية البوليسية في درجة أدنى، ومثلها روايات الإثارة الجنسية؛ فالرواية توصم بالبوليسية لالتصاق هذا النوع بالترقّب، ما عزّز اتهام الكاتب باستخدام أسلوب مخادع، باستدراج القارئ إلى القراءة؛ الحياة لا تحمل هذا القدر من الإثارة، قدر ما هي مملّة.
لا يمكن الوثوق بآراء النقّاد، فلو أننا أصغينا إليهم، فلا رواية يُجمعون عليها، الآراء مزاجية وأحياناً كيدية. حتى أن النقد الأكاديمي متحوّل تبعاً لمزاج العصر؛ قليل من الروايات صمد لمحنة الزمن. وليس من الغريب أن نجد بلداناً تروّج لكتّابها، لإنقاذهم من النسيان، وذلك للبقاء على قيد الأدب. المقاييس الحضارية تملي أن يكون لكل بلد شعراء وروائيون ومسرحيون يشكّلون بإسهاماتهم حصة مرموقة في خريطة الأدب العالمي.
الأدب الرسمي يرى في آفة التشويق هشاشة قد تلحقه بأدب الخفّة. وفي هذا خلاف كبير، فلو أننا أخذنا بالتشويق بشكل مجرّد، فلا بد من استبعاد كبار الكتّاب ورواياتهم العظيمة، وسوف تضمّ اللائحة سرفانتس ودستوفسكي وتولستوي وستندال وبروست ومالرو وملفيل وهيمنغواي وماركيز وكاواباتا وغيرهم.
في الحقيقة، القائمة تطول، حتى أنها تشكّل فعلاً التراث الروائي حتى الآن، بل وتخذل النقد، فجاذبيتها تبدو أنها شرط لروائيتها، إذ أن ما تهبه من متعة، لا يخفي ما تحفل به من إثارة.
جرى الاعتقاد أن التشويق لا يتحقّق إلا بتوافر قتيل مضرّج بدمائه، أو مطاردة لاهثة، فالموت والمطاردات لصيقة بالشرطة والمحقّقين، ولتكتمل الحلقة لا بد من امرأة شقراء فاتنة لتكون سببا، أو وراء جريمة ما. وفي هذا تبخيس حتى للرواية البوليسية، إلا في حال انحطاطها إلى التفنّن في القتل، وألعاب الكاراتيه، وتحطيم السيارات، وبطولات الأميركي الذي لا يقهر.
اللافت في الروايات الكبرى -إن كان للجريمة فيها نصيب ضئيل أو كبير- أن التشويق فيها لا يعتمد عليها، بل على عوامل أرسخ وأقوى تتبدّى في تنظيم المشهد الروائي، تنامي الحدث، التصاعد الدرامي، زاوية معالجة الفكرة، مقدار العمق فيها، التقاط المفارقات، لعبة الخيال، تبادل المواقع بين الوهم والواقع.. تقنيات أكثر من أن تُحصى، وهو ما يُسمّى فن "إدارة الرواية"، وهو فن مستقى من الحياة نفسها، ومحاولة استيعابها في رواية.