في السنوات الأخيرة في سورية، لم تعد الحياة فقط عبئاً بل أصبح الموت كذلك، وبالتحديد تأمين قبر مناسب في الظروف الجديدة، بعدما حصدت المواجهات المسلحة وعمليات القصف من الأرض والجو حياة حوالي نصف مليون سوري بين 2011 و2020. ففي السنوات السابقة - ضمن دورة الحياة الطبيعية - كانت المقابر تتّسع بشكل أو بآخر لمن يتوفى فتجد له أسرته قبراً مناسباً. كانت هناك مقابر مفضّلة في دمشق، مثل مقبرة الدحداح ومقبرة الباب الصغير وغيرها، باعتبارها قريبة من السور القديم لدمشق (الذي أصبح الآن في وسط المدينة) وهو ما يسهّل الوصول إليها لزيارة القبور في المناسبات المختلفة.
ولكن مع امتلاء هذه المقابر وإنشاء مقابر جديدة في ضواحي العاصمة (مقبرة نجها وغيرها) تبعد كثيراً عن الأحياء القديمة، برز "بزنس" جديد يتولى أصحابه تأمين قبور في المقابر المفضّلة مقابل مبالغ كبيرة. وخلال السنوات القاتمة (2011-2017) التي ازداد فيها عدد الضحايا وأصبح الوصول إلى المقابر البعيدة في الضواحي غير متاح أو غير مرغوب فيه بسبب القنص والحواجر وغيرها، ازدهر هذا "البزنس" وأصبح القبر يباع بالملايين.
في السنوات السابقة، كان يقال إن الحرب تبرز أفضل وأسوأ ما في نفوس البشر. ضمن هذا الوضع، برزت شبكات تضامن على مستوى الأسر والأحياء تساعد المحتاجين والمتضررين على البقاء على قيد الحياة، كما برزت شبكات أو مافيات تتعامل بكل شيء من التهريب والتشبيح إلى بيع القبور بالملايين، وهو ما أفرز شريحة جديدة اغتنت بسرعة كبيرة وأصبحت من رجال الأعمال الجدد الذين لم يكن يسمع بهم أحد من قبل.
في هذا السياق الذي تتساوى فيه الحياة مع الموت، في الحقيقة والمجاز، تبرز سرديات حقيقية تتناول ما يحدث مع مافيات المقابر وصدمات الأسر "التي تفقد فجأة أعزّ ما تملك" أو ما يربطها بالموطن الذي استقرت فيه. فالقبر يكون في الأساس لرأس العائلة أو للجد الذي يمثل رمزاً وتاريخاً ويمكن أن يضمّ لاحقاً ابنه أو حفيده مما يجعل القبر جامعاً أكثر للأولاد والأحفاد الذين يتكاثرون مع مرور السنوات. ولكن مع التطوّرات الجديدة تواجه العائلة الممتدة صدمة حين تفقد أحد أعضائها وتستعد لدفنه وتذهب إلى المقبرة لتفاجأ بأن القبر/ الرمز لم يعد موجوداً، أو أنه موجود ولكن بشاهدة تحمل اسماً آخراً دفعت عائلته الملايين لكي يكون لها موطىء قدم في المقابر الدمشقية العريقة.
هذا الرمز الموحي بالكثير نجده في روايتين صدرتا خلال 2017 و2019 في بلدين متباعدين (لبنان وكوسوفو)، ولا يوجد بالطبع أية علاقة بين المؤلفين سوى ظروف الحياة والإبداع التي ساقت كل منهما إلى هذا الموضوع، وبالتحديد حركة البشر من البلقان إلى بلاد الشام. أما الرواية الأولى فهي "كيف تقول وداعاً" للكاتبة السورية محاسن مطر شبارو (الدار العربية للعلوم، بيروت، 2017)، وتحمل الرواية الثانية عنوان "القبر المباع في دمشق" للكاتب إبراهيم قدريّو (كوها، بريشتينا، 2019).
الاسم المركب لمؤلفة الرواية الأولى (مطر شبارو) يمثل نتاج تاريخ عائلتين تعكسان حالة الدولة العثمانية وتنقّل الأفراد والجماعات من البلقان إلى بلاد الشام عبر الأناضول وبالعكس، وحتى إلى بلاد اليمن وأفغانستان، سواء بسبب الأحوال السياسية أو بسبب التعيينات في الوظائف والنفي من مكان إلى آخر كنوع من العقاب كان شائعاً وقتها.
في موازاة التأريخ للأحداث الممتدة من 1860 في سالونيك إلى 1938 في دمشق (وحتى إلى 1978)، تقف في الرواية على مسار آخر مهم يتمثل في التاريخ الاجتماعي والثقافي، وبالتحديد في التعرف على تفاصيل المحيط الاجتماعي في كل بيئة تجري فيها الأحداث بما في ذلك من عادات وتقاليد ونظرة الوافد إلى ما هو موجود والمستجدات الثقافية مثل "التنظيمات العثمانية" التي حملت نفساً جديداً من الغرب تمثل في أفكار المساواة وتعليم البنات وظهور المجلات والمسارح ودور السينما... إلخ.
هذه الخلفية التاريخية المتنوعة والبيئة الثقافية التقليدية والمتجددة أفادت الكاتبة محاسن مطر شبارو في تتبع مسار عائلتها المشوّق، وبالتحديد جدتها نعيمة التي وُلدت في سالونيك حوالي 1860 وانتقلت إلى إسطنبول حيث تزوجت وأنجبت حكمت، بطلة الرواية، التي فرضت عليها الظروف التنقل ما بين إسطنبول ودمشق إلى أن توفيت في دمشق 1938. في دمشق قبيل وفاتها أنجبت ابنتها قدرية، التي سميت كذلك لأنها ولدت في ليلة القدر التي كان لها شأنها في الثقافة الشعبية، وهي جدّة الكاتبة التي تختزل الأحداث عنها بلقطة معبرة في 1978 حين ذهبت ابنتها ملك (والدة الكاتبة) لزيارة قبر والدتها حكمت في مقبرة باب الصغير لتكتشف أن القبر قد سُرق وبيع من قبل حارس المقبرة، وهي الظاهرة التي تضخمت في السنوات الأخيرة، لتواجه الواقع المرّ بكونها غدت دون أم.
أما مؤلف الرواية الثانية، إبراهيم قدريو، فيعتبر أغزر كاتب بإنتاجه الإبداعي في العالم الألباني الذي يتوزع في غرب البلقان بين دول ألبانيا وكوسوفو ومقدونيا الشمالية وصربيا والجبل الأسود المتجاورة، حيث تناهر كتبه المنشورة في الرواية والقصة والشعر سنواته التي تجاوزت السبعين. ومن هذا العدد لدينا 34 رواية بدءاً من "زمن الحصاد" التي صدرت عام 1979 وانتهاء برواية "السجينان" التي صدرت عام 2019. وقد حظيت روايات قدريو بتقدير النقاد وحازت على جوائز عديدة، ومن ذلك أنه في 2012 فقط حاز جائزتين بارزتين تقديراً لإنتاجه الروائي: جائزة "حازم شكريلي" في كوسوفو وجائزة "روائي العام" التي تمنحها "جمعية القلم" في ألبانيا، بينما منح عام 2018 أعلى جائزة في كوسوفو من وزارة الثقافة تقديرا لمجمل أعماله.
ومن هذه الأعمال تُرجمت بعض رواياته ودواوينه إلى اللغات الأوروبية والشرقية (الألمانية واليونانية والايطالية والسويدية والتركية والعربية... إلخ)، وهو ما جعله كثير السفر إلى بلدان الشرق والغرب. ومن هذه البلدان التي زارها سورية، حيث تعرّف في دمشق على أحفاد أولئك الذين هاجروا من كوسوفو إلى دمشق قبل قرن تقريباً وأصبحت لهم حارة باسمهم مقابل مقبرة الدحداح، وهو ما وظّفه في روايته "القبر المباع في دمشق" المبنية على تاريخ حقيقي لثلاثة أجيال من عائلتين ألبانيتين مهاجرتين من كوسوفو التقتا في دمشق وتصاهرتا لتبرز هناك شخصيات تعبّر عن أحداث وسرديات مهمة في التاريخ الكوسوفي – السوري.
في الرواية تبرز أولاً شخصية صوقول عبدول من قرية فرلا، الذي اشتهر أخوه نذير بمشاركته في المقاومة المسلحة ضد النظام الملكي القمعي في يوغسلافيا القديمة إلى أن قُتل في إحدى المعارك، فقرّر تحت الضغوط التي انصبّت عليه أن يهاجر إلى دمشق في 1930 حيث استقرّ أولاً في جبل الأكراد ("ركن الدين" الآن) ثم هبط إلى السفح ليبني مقابل مقبرة الدحداح أول بيت في الحارة التي أصبحت تُعرف باسم المهاجرين الألبانيين، التي لم يبق منها الآن سوى الجامع الذي يحمل اسمهم وبعض البيوت الآيلة إلى السقوط. في هذا الحيّ، الذي أصبحت فيه كلمته مسموعة على الرغم من أميته، استقرّ صوقول مع زوجته عزيزة وزوجة أخيه الشهيد وابنتيه حنيفة وزكية وابنه المفترض قدري.
من هذه النواة تتفرّع مصائر شخصيات الجيل الثاني. فقدري يتحوّل إلى الشيخ عبد القادر الأرناؤوط، الذي سيصبح مع الشيخ ناصر الدين الأرناؤوط (الألباني لاحقاً) والشيخ شعيب الأرناؤوط من رموز مدرسة الحديث في بلاد الشام والعالم الإسلامي التي فرّخت السلفية في النصف الثاني للقرن العشرين. ولكن بالمقارنة مع ناصر الدين وشعيب انتهى به الأمر إلى أن يعيّنه الشيخ عبد العزيز بن باز، مفتي السعودية، داعية متفرّغاً لنشر "الإسلام الصحيح" في موطنه الأصلي – كوسوفو، حيث استقر فيها أيضاً ابنه محمود جامعاً بين التحقيق والدعوة على خطى والده إلى وفاته في 2017. وتتزوج ابنته زكية من يحيى ديشيشكو، وهو من عائلة معروفة في كوسوفو، وقد التحق هذا الأخير بجيش الإنقاذ في 1947-1948 سائقاً يحمل القيادات والأسلحة ما بين دمشق وفلسطين لينتهي به الأمر لاحقاً سائقاً في محافظة دمشق.
أما الجيل الثالث فيمثله بشير ابن يحيى، الذي ولد في سنة 1954 والتحق بالجيش للخدمة العسكرية في 1972 ليجد نفسه في العربات العسكرية الأولى التي اقتحمت خطوط الهدنة (على خطى والده مع جيش الإنقاذ) ودخلت الجولان بعد ظهر يوم 6 تشرين الأول / أكتوبر 1973. ولكن بعد عدة كيلومترات انفجر لغم تحت العربة العسكرية ونجا بعد عدة عمليات في الكويت ليعود إلى دمشق مقعداً ومكرّماً بكونه "من أبطال تشرين". وأراد القدر أن يتوفى في تشرين الأول/ أكتوبر 2018، ولما اجتمعت الأسرة لتجهزه للدفن كان القرار فوراً بأن يدفن في قبر الجد صوقول تكريماً له، ولكن لما ذهب أخوه ليخبر حارس المقبرة لكي يعدّ القبر للدفن فوجئ بأن لم يعد يوجد في مقبرة الدحداح قبر باسم "صوقول عبدل" فهزّت الصدمة العائلة بعد أن فقدت رمزها، وسرعان ما جاءت الصدمة الثانية بأن القبر قد باعه أحد أفراد الأسرة لكي يبقى على قيد الحياة خلال السنوات القاسية (2011 - 2016) التي بقي فيها دون عمل ومورد للحياة.
بالمقارنة مع الرواية الأولى، تختلف رواية "القبر المباع في دمشق" بكونها تمسك خيوط مصائر الأفراد والعائلات والدول (يوغسلافيا الملكية وتركيا الكمالية وسورية الانتدابية- الانتقالية بين الموت والحياة) من خلال ثلاثة أجيال (صوقول- يحيى- بشير أو صوقول – قدري - محمود) تعبّر عن تغيّرات كبرى بين الموطن الأصلي (كوسوفو) والمستقر النهائي (سورية)، وهو ما يجعل ترجمتها إلى العربية مفيدة.
* كاتب وأكاديمي كوسوفي سوري