نذهب إلى "المُطَّلع". يقرّر طبيب الأورام 44 جلسة إشعاع. نمكث ساعة ونعود مشياً على الأقدام إلى الفندق. حين اجتزنا باب المستشفى الخارجي، عدت وأخي وتأمّلنا في مباني "الجامعة العبرية" على "جبل المشارف". إنها ملاصقة للمشفى. أخذتني الأفكار: يوم افتُتحت هذه الجامعة عام 1925، شارك في حفل الافتتاح طه حسين ولطفي السيد ووجهاء فلسطينيون. كانوا في غفلة من أمرهم، وما كانوا يهجسون في تلك اللحظة، بما يخفيه لهم المستقبل.
نخرج من البوابة، ونمشي الهوينى، مغمورين بشمس الصباح اللطيفة، وهواء الجبال الطيب. الطريق بين المشفى والفندق معبّدة على نحو جيد، وعلى الجانب اليمين منها، يسكن المقدسيون بمحالّهم التجارية وبيوتهم. نمشي باستمتاع. أخي بدأت أحواله النفسية تتحسّن. فهو، كما قال لي، ليس مريض السرطان الوحيد في العالم. فثمة في الفندق مرضى من مختلف الأعمار، من سنّ الرابعة حتى الثمانين. واليوم طمأنه طبيبه بأنه سيُشفى خلال ثلاث سنوات من العلاج.
نمشي ونبتاع من فلاحة فلسطينية على بسطة في شارع عنبر، كيلو "عنب خليلي". العنب حبّاته كبيرة أشبه بحلمات شابة مرضعة. كل مرة أشتري عنباً، يوحي لي بظلال إيروسية ما. ومع أني لا آكل منه سوى حبّات، بسبب المرض، إلا أنني أتأمله طويلاً كلما اشتريته. وأذكر ذات يوم، أنه أصابني بالإغواء!
يُسمّى نبيذه هنا: "دم المسيح". لم ترقني التسمية. فكيف لك أن تشرب نبيذاً وأحد أسمائه الدم! نمرّ بجوار مدرسة أولاد. إنهم في الفورسة الآن، وما أمتع صخبهم! يا ما حلمت بالعودة لسنّهم! البراءة مع التفتّح مع الحركة العفريتية، كل هذا في مزيج هو الدنيا وقد أقبلت عليك! أما الآن، برفقة الوعي الشقي والجسم الداخل في كهولته، فلا إقبال بل إدبار. تفلت الدنيا من بين أيدينا، كقطة منزلية صغيرة، وتهرب مدبرة.
أقول لأخي، إنني أتذكّر يومي المدرسي الأول وكأنه حدث أمس فقط. الحياة فعلاً حلم قصير. ولهذا السبب فهي عظيمة. أقول لأخي: بعد كم يوم سأدخل في الخمسين. اللعنة! إمبارح كنا ولاد زغار، فكيف بلغنا هذه السن؟ ثمة خدعة ما أو ظلم ما. يبتسم أخي ابتسامة حكيم ويصفن. ويذكرني بمقولة النبي نوح، حين سُئل عن عمره الطويل كيف أحسّ به، فقال: كمن يعبر من غرفة إلى غرفة.
نقف بين عمارتين، وننظر من فسحة بينهما، فلا نرى البحر الميّت. ثمة ضباب حليبي في البعيد. فالجوّ اليوم غير صافٍ. هذا الضباب الحليبي، حين رأيته لأول مرة، أنا الكائن الساحلي، من وراء كنيسة المُطّلع، ظننته غباراً أبيض، ناتجاً من أعمال بناء وما شابه. ثم بعد أيام عرفت الحقيقة. فحين تنظر من ارتفاع إلى منحدر، في هذه التضاريس الجبلية الشاسعة، يبدهك الضباب لأول وهلة، لكنك حين تقترب وتحدّق بعمق، لا تجد ضباباً من حولك، بل هو البعد وخداع النظر. يذكّرني هذا بسراب الصحراء. السراب الذي لطالما قرأت عنه طويلاً، ولم أحسّه إلا في صحراء العراق الغربية.
نصل إلى الفندق، فيستأذن أخي لينام، وأظلّ أنا في المدخل. أراقب بشغف حركة المقدسيين والسياح. إيقاع هذا الحيّ السكني وكيف يعيش. مشهد ثمين، أعرف أنه سيتحوّل لاحقاً إلى حلم. فكل ما عشته في حياتي، وما رأيته، في عدة بلدان، يتحوّل لاحقاً، طال الزمن أو قصُر، إلى حلم وأطياف وذكريات. فلا أعود أُفرّق بين مشهد عشته وحلم رأيته. بل كأنني لم أعش حياتي القديمة أبداً، إنما حلمت بها فقط.
الليلة الفائتة، حدّقت عميقاً في مشهد قبة الصخرة من نافذة غرفة أبي عماد، فأتاني الهاجس بأنني أرى صورة في التلفزيون، لا المشهد الحقيقي بلحمه ودمه.
تمرّ سائحة شابة، مشرقة المحيّا، وتحيّيني. تسألني عن مكان ما، فأعتذر. يأتي موظف الفندق ويرشدها.
أصعد إلى الغرفة، وأغتسل، ثم أفتح كتاب "غبار القارات"، وأعيش مع خالد تجاربه. أجترّ هذا الكتاب، كما يفعل قارئ نيتشه النموذجي. أتوقّف عند بعض المقاطع، وأحاول الاندماج في المشهد. فعلاً... القراءة حيوات "فيزيقية" مُضافة.
يقترب وقت الإفطار. ننزل ونبتاع عصير لوز أبيض. عصير مقدسي يدوي، يصنعه الناس هنا ويبيعون اللترين منه بعشرة شواكل. عصير طيب المذاق، لا تشعر بمذاقه اللوزي المائل إلى المرارة، إلا في آخر الجرعة. وغير المنتبه، ربما لا يشعر البتة بأنه عصير لوز. أخي مجّه وأنا تحمّست له. فهو مريح لمعدتي الضعيفة، وصرت أتعامل معه الآن كبديل طبيعي من دواء الفومودين أربعين.
الباعة هنا نظيفون، وبضاعتهم، من فواكه وأسماك وخبز ومخللات، مرتبة وتبرق من النظافة. هنا تأكل باطمئنان كامل. أعجبني مذاق الخبز المقدسي على نحو خاص. ثمة أنواع كثيرة منه: الإفرنجي والعربي، ومن أنواع الأخير: خبز الطابون الذي يوضع على صينية بها حجارة زلط، داخل التنور، فيأخذ وجه الرغيف لون الاستواء، بينما باطنه يظلّ أبيض، وكأنه لا يزال عجيناً. أشتري رغيفي طابون أيضاً، لأنني سمعت عنه ولم آكله من قبل. كما أشتري باكيت إمبريال، سيكارتي المفضلة طوال عقد كامل مضى، ويشتري أخي باكيت تايم. نتجوّل قليلاً ونعود إلى الفندق، فإذا بهم وقد أحضروا إفطاراً لكل الغزاويين. نأخذ نصيبنا ونصعد. الأكل كثير قياساً بعددنا. يزيد الأكل، وهو عبارة عن سلطات ودجاج محمّر وأرز، فلا أعرف إلامَ مصيره: أهي المزبلة أم يذهب لمحتاجين؟
لقد أغرقنا المقدسيون بكرمهم. ومع هذا فإني مستاء وغير مرتاح لصنيع كهذا. فهذا يُعزّز من ثقافة التسوّل، التي أشاعتها تنظيماتنا في سنوات غزة الأخيرة. أعرف أنني أُحمّل الموضوع أكثر مما يحتمل، لكنّ شعوري بعدم الراحة لم يبارحني. وأعرف أنه رمضان، وأنهم فاعلو الخير السرّيون، وأننا النزلاء المرضى بأمراض عضال، ومع هذا لم يبارحني استيائي طوال فترة الإقامة في الفندق. لعلّ ذلك من أثر ما نعيشه ونراه يومياً هناك في غزة: حيث شاعت تلك الثقافة المقيتة المدمّرة، حتى وصلت إلى بعض الشرائح المرتاحة، ولم تقتصر فقط على المعوزين الحقيقيين.
في الليل نسهر عند أبي عماد، وفي الهزيع المتأخر، أنزل إلى غرفة الإنترنت بالطابق الأول. أفتح إيميلي وأرسل بعض الرسائل، أو أردّ على بعضها. اليوم أتتني رسالة من صديق عراقي قديم، ففرحت بها، وكتبت الردّ. أمرّ على بعض المواقع الأدبية، لا شيء جديد. أقوم وأخرج في الصقيع، لأدخّن سيجارة على باب الفندق.
هواء ما قبل الفجر عدواني، بهبّات قاسية. أطفئ السيكارة من منتصفها، وأعود فأصعد إلى الغرفة، وفي يدي كوب "نيس كافيه" بحليب مُبستر، لأنام.
لم أنم. دخّنت واغتسلت، وذهبت مع نجوان في أعداد من مجلته. قرأتها جميعاً، وإذا بضوء الصباح ينبثق. لم أنتبه للأذان القادم من المسجد الملاصق. أطفئ نور الغرفة، وأحاول النوم. كم أكره هذه اللحظات: لحظات التهيّؤ للنوم، وأنت مفدوح بأنك لم تنم والوقت تأخّر. إنما، ثمة معجزة يومية تنقذني من شعور وبيل كهذا. معجزة لا تأتي كل يوم، لكنها تأتي غالبية الأيام.
أفكّر: من هنا صعد المسيح إلى السماء. أفكّر: من هنا صعدت مريم العذراء أيضاً. فمتى سأصعد أنا إلى سماء النوم أخيراً؟
* شاعر فلسطيني مقيم في برشلونة، والنص حول تجربته في عام 2009