لم يحظ إمبراطور روماني بما ناله ماركوس أوريليوس (121 - 180) من اهتمام المؤرّخين وأهل الفكر والأدب، واعتُبرت كتاباته من أبرز المراجع في الإدارة والحكم، وشكّلت جزءاً من التراث الفلسفي في شرق المتوسّط وغربه، بعد انقسام الإمبراطورية الرومانية بعد أكثر من مئتي عام.
رغم أن الإمبراطور الفيلسوف كان معادياً إبان حكمه للمسيحية ورأى فيها خطراً على دولته، إلّا أن كتابه "التأمّلات"، الذي وضعه باللغة اليونانية ظلّ محفوظاً لدى الكنيستين؛ الشرقية في بيزنطة والغربية في روما، حتى عام 1558 حين طُبع لأول مرة مترجماً إلى الألمانية على يد فيلهلم زيلاندر، لينتشر بعد ذلك على نحو واسع ويُنقل إلى لغات عدّة.
في عام 1938، صدر الكتاب باللغة العربية للمرّة الأولى بترجمة جورج مرار العزيزات (1910 - 2005) عن "المطبعة الهاشمية" في عمّان، والذي نقله عن الفرنسية وكُتبت حوله مراجعات في الصحافتين الأردنية والفلسطينية، لكن يبدو أن تداولها لم يخرج عن هذا النطاق، وإن أشار الأب مكاريوس جبّور في كتابه "نخبة مختارة من حكم الأقدمين" (2005) الذي تضمّن بعض مقولات أوريليوس إلى هذه الترجمة، مشيراً إلى عدم الدقة في بعض مواضعها.
مع تراكم النقول العربية عن الفلسفة الإغريقية، خاصة ما كُتب خلال الفترة الرومانية، تكرّست مكانة صاحب التأمّلات" إلى جانب لوكيوس سينيكا وشيشرون، وصدرت لمؤلَّفه الذي يقع في اثني عشر فصلاً عدّة ترجمات، منها ترجمة جعفر رجب عن "الهيئة العامة المصرية عن الكتاب" (2009)، وترجمة عادل مصطفى عن "دار رؤية" (2010).
لكن سبباً آخر يقف وراء عدم انتشار ترجمة العزيزات التي أعاد ابنه مرار طباعتها في عمّان منذ أيام، وهو أن والده انشغل بتصاريف الحياة - غالباً - فلم يواصل عمله في الترجمة، التي أشار إليها الكاتب الأردني الراحل (1918 - 1985) في مقال له نهاية ثلاثينيات القرن الماضي، موضّحاً أن جورج مرار ترجم رواية "الضحية الخالدة" للفرنسي هنري بوردو ونُشرت على حلقات تباعاً في مجلة "رقيب صهيون" التي تصدرها "البطريركية اللاتينية" في القدس، لكنها لن تصدر في كتاب إلى اليوم.
كما يلفت الناعوري إلى أن العزيزات يعكف على ترجمة "العقد الاجتماعي" لجان جاك روسو والتي لم تُنشر أيضاً، وكلّ ما تلفت إليه الطبعة الجديدة من "التأملات" أنه كان قد تخرج من كلية الفرير في القدس وعمل في التدريس والترجمة والتجارة، وقام بطباعة المصحف الشريف عدّة مرات.
يقول المؤرّخ روكس بن زائد العزيزي (1903 - 2004) في تقديم الكتاب: "ليست تأمّلات ماركوس أوريليوس سوى خلاصة للفلسفة الرواقية، فهو يرى أن كلّ ما في الوجود إنما هو جسم مادي، حتى الروح والخلق في اعتقاده واعتقاد الرواقيين مادة لا غير، ولكنه يعتقد كرواقي أن الله هو العقل الكوني".
أما العزيزات فيوضّح أن الإمبراطور الفيلسوف لم يفكّر بأن يؤلّف كتاباً، وهو في هذه النقطة يشترك مع ما يعتقد به الكثيرون من الدارسين لسيرته بأنه كان يكتب لنفسه وهو يقود جيوش إمبراطوريته في لحظة مفصلية كان من الممكن أن يخسر عرشه وحياته معاً، وفيها اصطدم مع مجلس الشيوخ في قرارات مصيرية، وتعرّض إلى الخيانة من أحد قادة جيشه.
يضيف المترجم أن "أوريليوس كان يدوّن كل حكمة تخطر بباله في أوقات الكآبة والحزن، يعدّد في الجزء الأول منها الأشخاص الذين أثّروا فيه تأثيراً حسناً، والأجزاء الباقية هي مجموعة حِكَم تطابق فلسفة زينون، ففي بعضها يرى ذاته قوياً في الحياة، وفي البعض الآخر يستعد للموت".
لم تغفل مقدّمة الكتاب عن الإشارة إلى أن ماركوس استحق قول أفلاطون في كتابه "الجمهورية" التي يرد فيها: "إن الدولة والجنس البشري لا يُشفَيان من أوصابهما ما لم يصبح الفلاسفة ملوكاً والأمراء حائزين لروح الفلسفة وقوّتها ولم تجتمع الحكمة والسياسة في رجل واحد"، وهو استحقاق لطالما أشار إليه العديد من الفلاسفة الأوروبيّين.
استحوذ مفهوم التغيير على مساحة من تأمّلاته، حيث يدوّن في واحد منها: "تأمّل دائماً كلّ ما يأتي به التغيير، وروّض نفسك على فكرة أنّ الطبيعة "الكل" لا تولَع بشيء قدر ولعها بتغيير كلّ شيء من الوجود إلى شكل آخر جديد، وكلّ ما يوجد هو بمعنى بذرة لما يأتي بعده".
وخلص في أكثر من موضع إلى أن العالم هو التغير والحياة هي الرأي، وأن على الإنسان ألّا يخاف التغيير، حيث عناصر الطبيعة من حولنا في عملية دائمة من التحلّل والتفكّك وإعادة الالتحام والاندماج، وأن الطبيعة مادة العالم تُستخدم كما يستخدم الشمع، في إشارة إلى اختلاف الخلق وعدم دوامه.
يغلب على تأمّلات أوريليوس عنايتها بالأخلاق حيث الفلسفة هي خلاص الفرد وتهذيب نفسه، بحسب رؤيته ومنهجه في الحكم أيضاً، والذي عُرف عنه التسامح مع الأعداء وتحرّره من رغبته في الثأر منهم وتوجّهاته الإصلاحية التي كان عمادها عدم فرض الضرائب على رعيته.
في هذا السياق، نقع على مقولات مثل: "خير وسيلة للانتقام من الفاسدين هي عدم التشبّع بهم"، و"إذا وبّخني أحد وبرهن لي أني أفكر أفكاراً رديئة وأسلك سلوكاً باطلاً، فإنني أُصلح ذاتي بكل سرور، وأنا في الواقع أطلب الفضيلة التي لا تجرح أحداً"، و"يجب أن نأخذ دون كبرياء ونُعطي دون أسف".
رأى أوريليوس أن نهضة إمبراطوريته وقوّتها هما هدف أخلاقي في حدّ ذاته، مترجماً جوهر المبادئ الرواقية التي آمن بها، وفي مقدّمتها أن الأخلاق هي دستور الدولة وفيها تبلغ الفلسفة مقصدها ومنتهاها، حيث يقول في أحد تأمّلاته "إن الإسكندر المقدوني وسائق البغال الذي كان يخدمه كانا في مستوى واحد بعد موتهما، فإنهما انحلا إلى المواد الطبيعية التي ركّبا منها، وتفرقا في الطبيعة ذرات صغيرة".