تواصلت اليوم أعمال اليوم الثاني من مؤتمر العلوم الإنسانية والاجتماعية، الذي ينظّمه "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" في الدوحة، ويُختتم غداً، الإثنين؛ حيثُ تُقام آخر الجلسات، وتُعلن أسماء الفائزين بجوائز المؤتمر عن أبحاثهم المُشاركة.
بمحاضرةٍ عنوانها "الحرية في المجتمع بما هي حريّات"، افتتح المفكّر العربي عزمي بشارة جلسات اليوم الثاني؛ متناولاً، في بداية ورقته، الحريّة من منظورٍ فلسفي، مبلوراً عبره مفهومي الأخلاق والإرادة.
يشير بشارة في بداية ورقته أن الحرية "معرّفة بالعقل والإرداة، مشروطةٌ بهما"، مفسّراً: "لا حُريّة في الطبيعة؛ أي لا حريّة في الكائنات فوق الطبيعية". فإن الحريّة، بالنسبة إليه، ملازمةٌ للإنسان: "لا حريّة للكائنات التي تقع دون الإنسان، أو فوقه".
يوضّح صاحب "المجتمع المدني" أن الحرية ليست مُعطىً طبيعيّاً؛ "إذ لا يولد الإنسان حرّاً فكريّاً وجسديّاً وإرادياً"، مبيّناً أنّ هذا القول يعني أن الإنسان لم يولد عبداً: "إنّها مقولة موجّهة ضدّ العبودية". يضيف: "ولكنّ شروط الحرية ومكوّناتها؛ أي العقل والإرادة، لا تتوفّر في المولود البشري".
يذهب بشارة في تتبُّع وتقصّي "مفهوم" الحرية بحسب ما ورد في الأدبيات الكلاسيكية، العربية والغربية، والنهضوية والليبرالية؛ ليخلُص إلى أنّ "الحريّة قيمةٌ، وليست مفهوماً. قيمةٌ كالسعادة والصّدق، موجودةٌ في الوعي الإنساني كسلوك وممارسة، لا في الكون".
هنا، يطرح بشارة مسألة الحريّات، بمختلف أشكالها؛ حريات اجتماعية، وسياسية، وشخصية: "يكمن التحدي الحقيقي في قدرتنا على مغادرة النقاش الفلسفي حول الحرية والانطلاق إلى مسائل الحريات وشروط تحقيقها في واقع المجتمعات والدول العربية".
في هذا السياق، يطرح بشارة سؤالاً: "إذا وقعت المفاضلة بين الاستقرار والحفاظ على الحياة من جهة، والحرية من جهة أخرى، فأيهما نختار؟". ثمّ يفسّر: "هذا سؤال وهمي، فمن يعارض الحريات المدنية والسياسية لا يقول إنه يؤيد الظلم والاستبداد، إنما يحاول أن يقابل الحرية بقيمة أخرى، هي مثلاً "الوطنية" موجّهاً التهمة للحريات المدنية والسياسية بأنها مؤامرة خارجية".
هكذا، كما يقول صاحب "أن تكون عربياً في أيامنا"، "لا تصح المساومة بالتنازل عن الحريات المدنية والسياسية في مقابل حماية نظام الاستبداد للحريات الشخصية، وبالمثل لا يصح أيضاً تدخّل أي نظام في كل صغيرة وكبيرة في حياة الناس اليومية ويدعي أنه يحمي الحريات المدنية والسياسية".
بعد المحاضرة، تابع المؤتمر أعماله، كما اليوم السابق، ضمن جلساتٍ تتوزّع على محورَيه: "سؤال الحرية في الفكر العربي المحاصر"، و"تحديّات المتدين في مجتمعات متحوّلة".
جاءت الجلسة الخامسة في المحور الأول بعنوان "الحرية الدينية وحرية المعتقد". وافتتحها الباحث معتز الخطيب بورقة تناقش "الحرية الدينية وقتل المرتد: مدخلٌ لإعادة التفكير في الاجتهاد الفقهي".
بحث الخطيب في التشعّبات المتعدّدة المرتبطة بالتفكير الإسلامي ومفاهيم الحرية في التراث والقرآن، ساعياً إلى توضيح "النظام الفقهي" ومبناه في تقرير عقوبة الردّة، وأثر تبديل القيم الأخلاقية وتطوّر مفاهيم الحرية وتجاوزها للتفكير الفقهي السائد وأحكامه.
في هذه الأثناء، كان باحثو المحور الثاني يناقشون "المدينة العربية والتحوّلات الاجتماعية - الاقتصادية"، من خلال "دراسات حالة"، تطرّق فيها كل من كلثم علي الغانم وعبد الله بادحدح تقييماً للأثر الاجتماعي للتنمية العمرانية المكثّفة في قطر؛ في تلمّس لسوسيولوجيا الأنماط السكانية.
ينطلق البحث من العقد الأخير الذي شهدت فيه قطر تنمية سريعةً؛ حيث شُيّد عددٌ كبير من المباني فوق المياه الضحلة المحيطة بشبه الجزيرة، وارتفعت مباني سكنية واجتماعية، في مقابلها تجمّعات متراصّة من الأبراج والمباني التي تشرف على البحر، لتبقى الضواحي تزحف في الصحراء المحيطة بمدينة الدوحة.
في هذا السياق، أصبح هناك تباينات اجتماعية وعمرانية وخدميّة تتعلّق بسكّان المباني الشاهقة، وتلك المنخفضة، والمستقلّة غالباً، أثرّت على علاقة السّاكن في محيطه الاجتماعي والأمني؛ حيث بين استطلاع مسحي أحراه الباحثان أن سكّان المباني المنخفضة أكثر شعوراً بالانسجام مع محيطهم وجيرانهم من أؤلئك الذي يسكنون في الأبراج.
عودةً إلى المحور الأوّل، جاءت الجلسة السادسة منه لافتةً؛ حيث قدّم المشاركون الثلاثة أوراقاً بدت أفضل من كثير من الأوراق التي قدّمت. فبينما افتقدت بعض الأوراق إلى مقولات نقدية وجدلية، حاولت أوراق الجلسة السادسة أن تتقصّى مسألة الحرية والليبرالية استناداً إلى أدبيّات المفكّرين والمنظرين العرب والغربيين والجدل الذي دار حول هذه المفاهيم، والخُلاصات، ضمن سياقاتٍ تاريخية.
في هذه الندوة، قدّم عبد الوهاب الأفندي ورقة بعنوان "ثمن الحرية: اقتصاديات الحرية والتحرّر في صراعات الحداثة العربية"، تتناول الحرية من حيث المعنى، بوصفها قضية شائكة في الواقع العربي.
بحث الأفندي في مفهوم الليبرالية، وعلاقته بالحرية، وكيفية تعاملها معها، مقدّماً نقداً لمقولاتها حول مفهوم الحرية في الثقافة العربية؛ "إذ هي قيمة متأصّلة لدى العرب قبل الإسلام"، موضّحاً أن "الحرية "الفردية" لا معنى ولا وجود لها خارج إطار منظومة اجتماعية معيّنة، ولا تنفصل عن مفهوم الجماعة التي تشكّل هذه المنظومة".
اقرأ أيضاً: مؤتمر العلوم الاجتماعية والإنسانية": الاستبداد والتحوّلات الاجتماعية