ما يثير الانتباه في الطبعة الجديدة هو تغيير العنوان الأصلي بعنوان آخر هو "الشخص في الإسلام: الحرية والشهادة"، كما لو أن الناشر لم يُرد ربط أفق انتظار القارئ بمدرسة "الشخصانية" التي انقطع ذكرها في السياق الفلسفي الفرنسي.
إعادة نشر الكتاب أمرٌ يستحقّ التوقّف عنده، بالنظر إلى طبيعة الناشر والمحقّق، وهو اللاهوتي الألماني ماركوس كنير؛ فالمسيحية الكاثوليكية تحتفي برجل يُنظر إلى فلسفته كأساس ممكن لحوار مع الإسلام، ما فتئت تؤكّد التزامها به والمساهمة في تحقيقه.
يعتقد كنير، الذي تخصّص في فلسفة لحبابي وترجم عدداً من أعماله إلى الألمانية ونشر أبحاثاً عنه بالألمانية والفرنسية، أن مفهوم الحوار بين الأديان "لا ينطلق من دين جوهراني ولكن من دين معيش". إنه، بلغة أخرى، حوار بين أشخاص أو بين تأويلات معيّنة للدين، ترتبط بالسياق الذاتي والموضوعي لأصحابها: "قبل كل حوار بين الأديان، يجب أن نتساءل: من يتكلّم مع من؟".
من هنا، تتبدّى، بحسبه، ضرورة بناء أنثروبولوجيا للحوار. يؤكّد أن أهمّ الأجوبة التي قدّمها الخطاب الفلسفي الغربي على سؤال الحوار، هو مفهوم "الشخص"، بدءاً من القديس أوغسطين، وقبله مع ترتوليان والفلسفة الحوارية كما عبّرت عنها كتابات مارتين بوبر وفرانس روزنتسفايغ وفرديناند إبنر في ألمانيا وغابرييل مارسيل وإمانويل مونييه وكل التيار الشخصاني في فرنسا، والذي جاء كجواب على الأزمة الاقتصادية سنة 1929 التي يقول اللاهوتي الألماني عنها: "هي أيضاً أزمة الإنسان الحديث"، وكلّها أفكار تلتقي في مفهوم "الشخص ككائن ملتزم".
بعد خروجه من السجن، في فترة الاستعمار الفرنسي، توجّه لحبابي إلى فرنسا لمتابعة دراسته. لقاؤه بالغرب طرح عليه أسئلة تتعلّق بهويّته ووضعه في العالم المعاصر، كإنسان عربي ومسلم قادم من "العالم الثالث"، فوجد في التيار الشخصاني الفرنسي قالباً لطرح أسئلته. هكذا، بحث في رسالته الأولى للدكتوراه شروط وحقول وإمكانيات "التشخصن".
صدرت الدراسة عام 1954، بعنوان: "من الكائن إلى الشخص: نحو شخصانية واقعية". يرى كنير أنه، ورغم المنهجية الفلسفية للكتاب، إلا أن نتيجته كانت حوارية بامتياز؛ إذ إن صاحبه يؤكّد بأن على المسيحية والإسلام الدخول في حوار دون أن ينغلقا فيه عن رؤى العالم الأخرى، ويعتقد أن "شرط الحوار أن ندخله كأشخاص يتمتّعون بالكرامة الإنسانية"، مؤكّداً أن كل الأديان والفلسفات، ومنها الماركسية، تضع نصب عينيها تحقيق تلك الكرامة للإنسان.
في كتابه الثاني "من الحرية إلى التحرّر"، يعترض لحبابي على ربط الحرية بالفرد فقط، تلك الحرية التي قال تيودور أدورنو، في "الجدل السلبي"، إنها لا تتحقّق إلا بشكل مجرّد. نادى الفيلسوف المغربي بحرية تشمل مجموع مجالات الحياة الإنسانية. وفي الصفحات الأخيرة من كتابه، كتب بأن "الشخصانية الإسلامية هي نتاج لثقافة مزدوجة: غربية وإسلامية، وأيضاً نتاج لقلق مزدوج"، مشيراً إلى ضرورة بعث الحياة في الروح الواقعية داخل العالم الإسلامي وتحقيق قفزة باتجاه الـ"نحن"، لكن دون التضحية بالشخص "الذي سيعرف نفسه، من خلال لقائه بالآخر وتواصله معه".
يرى كنير أن لحبابي لم يكن في علاقة قلقة مع ثقافتين مختلفتين فقط، بل طوّر نقداً مزدوجاً للمركزية الغربية، وفي الآن نفسه لـ"المُغلق الإسلامي"، كما أكّد على حرية الشخص، ولكنها حرية لا يجب أن تُفهم كحرية مطلقة، بل كحرية يعيشها في ظل جماعة معيّنة. وفي سياق هذا النقد المزدوج، ينخرط كتابه "من المغلق إلى المنفتح"، الذي يمثّل سيرة فكرية لصاحبه ولجهوده الفلسفية ولقاءاته المتعدّدة في الغرب والشرق.
سنة 1964، أصدر كتاب "الشخصانية الإسلامية"، الذي يمثّل، حسب كنير، حصيلة تفكيره في الحوار الإسلامي المسيحي. وفي السنة نفسها، صدر مجدّداً عن "المجمّع الكنسي الثاني" الذي كان لحبابي متابعاً لأهمّ ما بلوره من أفكار بشأن الحوار، وخصوصاً بشأن الإسلام. شدّد الكتاب على أن الحوار يجب أن يشترط وجود أنظمة فكرية تملك كلّها الحقّ في التعبير والحياة، وفي أن تكون لها حياتها الخاصة، مؤكّداً أن "الاعتقاد بحقيقة دينية واحدة لا يقلّ خطورةً عن التوتاليتارية الحديثة".
سبر لحبابي الأسس الإسلامية للشخص الانساني، وترجمها إلى لغة فلسفية، وفتحها على تقاليد دينية أخرى، سيراً على منوال كبار الفلاسفة في القرن العشرين، ولكن في استقلال عنهم.
يرى كنير أن القراءة الشخصانية التي يقدّمها لحبابي للمصادر الدينية تمثّل بداية حقبة جديدة بالنسبة للهيرمونوطيقا الإسلامية. ويشير إلى أن الباكستاني محمد إقبال سبقه إلى طرح أسئلة حول "الأنا" الإنسانية التي تستقبل الرسالة الإلهية. لكن المثير في الحالتين، أنهما طوّرا تلك الهيرمونوطيقا انطلاقاً من قراءتهما للتجربة الفكرية الغربية، كما لو أن التجديد الفكري لا يتمّ بدون خطوات نقطعها خارج ثقافتنا.
اقرأ أيضاً: كريبع النبهاني: جزائريون يتساءلون