ظلّ خليل حاوي (1919 – 1982) حبيس حياته الشخصية ومواقفه السياسية مع كلّ اقتراح لإعادة قراءة نصوصه التي كتبها منذ خمسينيات القرن الماضي حتى رحيله، وربما جاءت واقعة انتحاره لتؤطّر تجربته في سياق محدّد يجري خلاله التعسّف في الربط بين قصائده وحوادث زمانه.
في مسار موازٍ، لم تنجُ مراجعة القصيدة العربية منذ منتصف الأربعينيات من التباسات عدّة تتعلّق بتلقّي ما قدّمه روّاد شعر التفعيلة على المستويين الفني والجمالي، والذي لم يصمد الكثير منه اليوم، وتمّ تجاوزه على نحو أعمق وأكثر نضجاً لدى الأجيال اللاحقة، لكن تبقى قيمته التاريخية لما يمثّله من تحوّلات كبرى بعد مخاض شعري عسير استمر لعقود ماضية.
قدّم الناقد والأكاديمي الأردني عبد القادر الرباعي (1941) مقاربة مغايرة لأعمال الشاعر اللبناني بمناسبة مرور مئة عام على ميلاده، تنبني أساساً على تحليل الخطاب بما يحيل إليه المعنى الداخلي، دون إقحام للأحداث الخارجية، ضمن ندوة نظّمتها "جمعية النقاد الأردنيين" السبت الماضي في عمّان، قدّمها وأدارها الباحث يوسف الربابعة.
لا ينفي صاحب كتاب "جماليات المعنى الشعري" تأثّر حاوي بمجريات الأمور من حوله، والتي حكمت ثنائية الموت والانبعاث في مجموعاته الخمس، لكن التوقف عندها "يقلل من القيمة الكبرى لقيمة الرمز الشعري. فالشاعر - قبل كل شيء - إنسان ينشئ الشعر من دمه وكيانه وثقافته اللا محدودة؛ محلياً وإنسانياً".
تحت عنوان "الموت والانبعاث في شعر خليل حاوي: ديوان "الناي والريح" نموذجاً"، يضع الرباعي انتحار الشاعر في ليلة اجتياح العدو الصهيوني لبلاده، كـ "خاتمة انتحاراته المتكررة في دواوينه الشعرية قاطبة، لأن القديم المتمثّل بدول صنعها الاستعمارُ "ميتة"، فيما أخفق كلّ جديد ولم يعد من الممكن توليد المعنى في لحظة انتهت بها الحياة".
المجموعة الثانية للشاعر التي يدرسها المحاضر تعدّ امتداداً في موضوعاتها ومناخاتها لمجموعته الأولى "نهر الرماد" (1957)، التي كان لا يزال مؤمناً بأدوار الشاعر والمثقف الرسالية في إيقاظ أمته ونهضتها، مشيراً إلى أنها الغاية والهدف الأسمى لديه، حيث "يشعرنا أنه ذو بشارات إلهية، فهو يتحرّك في محيط الأنبياء، ولكن دون نبوة".
تحضر مجموعة "الناي والريح" (1961) كحّد فاصل بين يقين باستنهاض الذات الجمعية لدى الشاعر، وبين خديعة الانبثاق التي اصطدم بها وظلّت تلازمه في مجموعته الثالثة "بيادر الجوع" (1965)، ثم توارت قليلاً في مجموعته الرابعة "الرعد الجريح" (1979) برؤية مختلفة نحو البطولة الفردية والجماعة، فالخامسة "من جحيم الكوميديا" (1979)، لينطفئ الأمل وتسود الظلمة المطلقة.
يذهب الرباعي في تحليل نصوص "الناي والريح" التي يرى أن عنوانها ثنائية متخالفة حدّ التناقض: فالناي هو أيقونةُ السكون، ورمز للتقليد، والريح أيقونةُ الحركة، ورمز للتجديد، ومنها صورة "البصّارة" في قصيدة "رحلة السندباد الثامنة" التي تنتمي إلى عالم الغيب والخرافة القائم على الخداع وابتزاز البسطاء، لكنها ليست الوحيدة في فعلتها، إذ تشترك معها الجامعة التي كان يدري بها وكان "يشعر أنه في سجن يحول دون حريتِه".
سجنٌ ليس أكثرَ من أكوام الورق العتيق؛ علامة التخلف، لكنه بحسب المحاضر "لن يهدأ لا، ولن يستكين؛ فهو توّاق للعبور إلى التغنّي بالتجديد، إلى نور اليقين. لم يفصله عن ذلك إلا خطوةٌ، أو خطوتان إلى الباب، ثم إلى الطريق، وهو مستعد للتضحية بكل ما في الجامعة من إغراء، مستخدماً أسلوب التهكم علامة سيميائية على الإنكار: دمي ينحرُّ يشتُمُني يئنُّ: إلى متى أزني وأبصُق/ على لقبٍ وكرسيّ. أنا لست منكم طغمة النسّاك/ لن يستحيل دمي إلى مصلٍ. كذبت، كذبت/ جرّوني إلى الساحات، عرّوني. اسلخوا عني شعار الجامعة".
إذاً، لا فرق بين المؤسسة التعليمية التي تدّعي التحديث وبين كذب الدجالين من قرّاء االطالع، وهو موقف نقدي من المجتمع قد يتجاوز مجايليه كالسيّاب وعبد الصبور وقبّاني، لكنه يلتقي معهم على رفض علله وأمراضه التي قدّمها مثلما فعل بعض هؤلاء في مرافعات تتصدّرها المواقف المؤدلجة والتنظير العالي على حساب الشعرية، ويتغاضى عنها كثيرون من الدارسون، ومنهم الرباعي، والذين يركّزون على موضوعات الشعر بشكل أساسي.
ووفق هذه الاعتبارات، يرى المحاضر أن "الريح ( أيقونة الحركة)، فهي زاد التنويريين الداعين إلى جلب الضياء لقلب القبيلة، كي تنبثق منه العبارة التي تصنع العالم"، موضّحاً أن الشاعر "يسعى إلى أن ينشقَّ عن جذوره الراكدة، القابعة في محيط الكسل"، و"مستـخدماً لذلك أسلوب المناجاة والسؤال، علامة على القلق، حيث يقول "ربي! متى أنشق عن أمي، أبي.. كتبي، صومعتي، عن تلك التي.. تحيا، تموت على انتظار!".
وتفترق هذه القراءة، عما قدّمته الناقدة اللبنانية ريتا عوض، تلميذة الشاعر، حول أستاذها في سلسلة أوراق أصرّت خلالها أن تقدّم جميع نصوصه بوصفها استشرافا لحدث مثل "لعازر" التي اعتبرتها "قصيدة الهزيمة قبل الهزيمة" (تقصد نكسة 1967) أو بوضعها مجموعة "الرعد الجريح" كتعبير عن حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973 وتداعياتها، رغم أنها كُتبت قبل ذلك.
مقابل ذلك، ينزع الرباعي إلى أسبقية وعي حاوي وسعة ثقافته وعمق تأملاته التي لا تقيّد مشروعه الشعري إذا ما قرئ مجموعاً متصلاً، بحدث سياسي محدد، لافتاً إلى "الشاعر فوق التاريخ. الشاعر فوق الفلسفة"، وأن "شاعرنا انتمى إلى مثالية أفلاطون المطلقة وليس إلى مثالية أرسطو الأرضية"، وكانت أسئلته القلقة تجاه وجوده الإنساني ووجوده كفرد ينتمي إلى الجماعة، هي المحرّك الأساس والدائم في انفعالاته التي تسمو فوق الواقع.
ويخلص إلى أن الشاعر أقرّ أنه "يناطح صخرة غائرة في الوحل محاطة بسياج عقلي من فولاذ عتيق"، والتي عبّر عنها في المجموعة ذاتها بالقول: "الناسك المخذول في رأسي/ يشدُّ قواه، ينهرني، أُفيقْ/ بيني وبين الباب/ صحراء من الورق العتيقِ، وخلفها/ وادٍ من الورق العتيق، وخلفها/ عمرٌ من الورق العتيقْ".