تقف هذه الزاوية، مع مبدع عربي في أسئلة سريعة حول انشغالاته الإبداعية وجديد إنتاجه وبعض ما يودّ مشاطرته مع قرّائه.
■ ما الذي يشغلك هذه الأيام؟
يشغلني ما لم أكتبه بعد..
■ ما هو آخر عمل صدر لك وما هو عملك القادم؟
"مائة هايكو وهايكو" هو آخر عمل صدر لي بالاشتراك مع الشاعر العراقي الرائد عبد الكريم كاصد المقيم بلندن. أمّا أعمالي القادمة، فهي ثلاثة: "ما أكثرني مع قطرات الندى أتقاطر"/ هايكو، و"كأي جدول في المنحدر"/ شعر، و"150 هايكو" بتقديم فرنسي للشاعر والفنّان نصر الدين بوشقيف.
■ هل أنت راض عن إنتاجك ولماذا؟
أبداً.. لم أكن يوماً مطمئنا لما كتبت، لأنني أتوق دوماً إلى الجديد، وأشعر دائماً أنه كان بإمكاني أن أكتب ما كتبت بشكل أجمل.
■ لو قُيّض لك البدء من جديد، أي مسار كنت ستختار؟
لو قُيّض لي البدء من جديد لاخترت السينما المسكونة بالشعر.. يعجبني بناء عوالم بشكل ملموس أكثر.
■ ما هو التغيير الذي تنتظره أو تريده في العالم؟
أملي أن يصبح العالم (كوكب الأرض) وطناً واحداً من دون حدود ولا إثنيات، وطناً من دون حروب، وطناً من دون استعباد ولا استغلال.
■ شخصية من الماضي تودّ لقاءها، ولماذا هي بالذات؟
كلكامش.. هذا الملك الذي استطاع أن يخترق الزمن. أريد أن يُفرز لي الحقائق من الأساطير في ملحمته.
■ صديق/ة يخطر على بالك أو كتاب تعود إليه دائماً؟
روايتي "ألواح خنساسا".
■ ماذا تقرأ الآن؟
أقرأ ديوان الشعر المغربي خلال العقدين الأخيرين: اللعبي، زريقة، الطبال، الرباوي، نجمي، بنطلحة، بوسريف، منصر.. وآخرين.
■ ماذا تسمع الآن وهل تقترح علينا تجربة غنائية أو موسيقية يمكننا أن نشاركك سماعها؟
أسمع "فلامينكو".. أنتشي بإيقاعاته القوية وصيحاته الشجية.
يكتبُ بمزاج زهّار
سامح درويش
مِن بُرج إلى بُرج،
أكتبُ بكواكبي ونيازِكي ونجومي،
أنَا الفلَكيُّ المُزنّر ُبالمَجازِ،
بصِيرتِي مِقْرَابِي، وقلْبيَ أسْطرْلابُ،
أترصّدُ في السّديمِ مُذنّباتِي،
وأبْنِي منْ دوَرانِ القصَائدِ تقْويمِي.
لِي مُعْجمي منَ القَلاقِل والزيَغانِ،
ولِي مجَرّاتي،
أكتب بارْتِجَاجٍ لسْتُ أدْرك سرّهُ،
فمَا أنا سِوى رجْعٍ لمَا يرْتَجّ ويرْتَطِم،
ما هذِه الكلماتُ سوَى شُهُبي،
وما هذِهِ الأشعارُ سوَى لمْعِ نيَازِكي وأجْرامِي.
■ ■ ■
أكتبُ بلا يأسٍ ولا أمَل،
أكتبُ بشِغافِ نوْرسٍ علَى صفْحة الرملِ،
ليقْرأَ الموْجُ على الفوْر ما كتبْتُ،
أوْ تقرَأهُ الرّياحُ،
ما هَمّنِي أنْ تذوبَ في شقْشقة الموْج أشعاري،
أوْ تذهبَ طيَّ زفْزَفة الرّياح،
يكْفينِي أنّني بعْد أنْ أكتبَ عشْقِي أطِيرُ.
بحفِيف جَناحيّ،
أكتبُ أيضاً في عرْضِ السّماء،
فمَنْ يقْرأ تحْليقي غيْرُكمُ أيّها العشّاقُ،
ومنْ غيرُكمْ مثْلي يضْنى بلا يأسٍ ولا أمَل،
حسْبيَ أنْ أذْهبَ بدَداً في الهَواء،
فمَا حاجَتِي بالحِبْرِ،
إنْ أنا لمْ أسَارعْ إلى رَائِهِ بالبَتْر.
■ ■ ■
أكتبُ بصمْتِ حفّار قُبورٍ،
بقامُوس عِشْقي وفأْسٍ بيْن القبْضَتيْن،
أشقُّ صدْرَ المَجاز،
وأحْفرُ أنْشودَة في باطِن القلْبِ،
أحْفرُ للشّاعر مثْواهُ الأثيرَ،
ها هُو ذَا محْمُولاً على نبْضِ الرّفاقِ،
مُنتصبَ القامَة يأتِي،
ها هُو ذا يمْشِي،
بلاَ نعْش .. بالتّراب مُعطّرْ.
كمْ أغْبِطُهُ،
ليْتَنِي مثْلهُ أُكفّنُ بالنّشيدِ،
وأدْفَنُ في قصِيدهْ.
■ ■ ■
أكتبُ على نيّاتِي،
غيْر عابِئ بما يُضْمِرهُ الحرْفُ لِي
منْ نورٍ ونارِ،
أكتبُ مُنْكَبّاً علَى ولَهِي،
تارَةً كالشّاعر وتارةً كالعطّارِ،
أقْطفُ أعْشاب الشّعْر من قمَم الخيَال،
وأقَطِّرُ العطْر منَ الكلمَات.
شعْري مُدِرٌّ للقُبَلِ،
بِهِ أصْلحُ ما أفْسدَ الدّهْرُ،
وعطْري مُشْبعٌ بأسْرارِ العِشْقِ،
مُهَيّجٌ للعِناقِ ..
ها هُوَ ذا دُونَكُمْ .. شمُّوهُ .
■ ■ ■
أكتبُ بإصْرارِ عامِلٍ بمنْجَمٍ للفحْم،
خوْذتِي لُغَتي،
وعلَى جبِيني أحْملُ حلْمي شكْلةَ المصْباح،
قلْبي بطّارية الشّحن،
وضوْئي منْ تلْقاءِ نبْضي أقْدَحُه،
كيْ أشُقَّ حلْكَة الأنْفاقِ.
بإزْمِيلٍ منْ معْدن الحبِّ أحْفر منْجمَ هذا المجَاز،
أتًغلْغلُ زحْفاً على الحرْف نحْو بوَاطن القوْل،
وأنَا أحَاذِرُ أن تنْهارَ عليَّ أشْعاري،
حتّى إنّي كلّما وضعْتُ كفّي على صدْري،
اشْتَبَهَ عليّ الأمْرُ،
أهِيَ دقّات نبْضي أمْ ضرَباتُ الإزْميل في بَاطن الأرْض.
أتَصبّبُ شِعْراً وتسِيل القصيدةُ أسْطُراً على الفوْديْن،
وهذا حِبْري من غُبار الرّوحِ أصْنعُه،
فلاَ يعْجَبنّ لأمْريَ منْكُمُ أحدٌ،
إنْ كان سيسْمع حشْرجَةً في رئات الكلمَات،
أو كانَ سيسْمع للمَجاز سُعالاً،
لأنّ قصيدتي حتْما ستُصابُ في النّهاية بالسّيلِكُوز
■ ■ ■
أكْتبُ برَشاقة أكْرُوباتْ،
أمْشي على حبْل المجَاز بكلّ ثقَة واتّزان،
وأنا ألاعِبُ دوَائر الكلمات.
أقفُ على رأسِي بترْكيزٍ مثْل راهب بوذيّ،
فوْق مُفرَدة في الهَواء،
وأنا ألوّحُ للجمْهور بِكلْتَا قفازتيّ.
أتشَقْلَبُ فوْق سجّاد القصِيدة بخفّةِ سنّوْر،
وأتّخذُ هيْئة منْحُوتَةٍ في الفرَاغ،
أوْ شكْل عقْرب.
أفرْقِعُ كُرْباجِيَ المظْفورَ من أمْعاءِ الخيَال،
فتَخُبّ على الرّكْح أحْصِنةٌ بيْضاء،
أقِفُ على صهْوة واحدٍ، ثمّ على صهْوتيْن،
ثمّ أتدَحْرجُ من تحْت بُطون الأحْصنةِ البيْضاء،
مثْل كائِنٍ من العِلْكِ.
أمْشي على حبْل المَجاز ثانيةً بكلّ اتّزان،
سيّانِ .. عنْديَ الآنَ سيّان،
أنْ يُقالَ هذا شاعرٌ، أمْ يقال بهْلوانْ .
■ ■ ■
أكتبُ بكبْرياءِ بائعٍ جوّال،
أدْفعُ قصِيدتي في الأزقّة الضيّقة،
وأنادِي: يا طَراوة يا حَلاوة،
تُفْتحُ في وجْهي أبْواب الزّقاق حين أعْبُرُه،
ونساء ُالحيّ يعْرفْنَني بجوْدة أحْلامِي،
هكَذا أقْطفُ بهْجتي من غابَة الأشْجان حوَاليّ،
في الصّبح وفي عزّ الظّهيرة وبعْد العصْر،
أنَادي حيَّ على الشّعْر.. حيّ على النّثر،
لا أطفّفُ في الحلْم، ولا أزوّقُ وجْه القوْل بقَافيةٍ،
نَعمْ، دوريّة الشّرْطة دوْما تُلاحقُني،
وتحْجزُ سلْعتي أحْياناً،
لكنّني أبْقى مُمْسكاً بقصِيدتي كالصّنَمِ.
أكْتبُ بكبْرياء بائعٍ جوّال،
أسْتطيعُ أن أحْرق أشعاري في كلّ حين وأحْرقني،
إلخ ..إلخ ..
■ ■ ■
أكتبُ بلا أيّ تأمينٍ ضدّ حوادث الشِّعْر،
وأنا مُعلّقٌ على "شافُودٍ" في الهَواء،
مثْل مُياوم في ورْش للبِناء،
بِزَلّةٍ واحِدةٍ قدْ أسقُط منْ قَصيدةٍ شَاهِقة،
ويتَهشّم في الحالِ قلْبي،
وتَسِيح أشْعاري رقْرَاقةً على الأرْض،
أنا الّذي لا أعْرف كيْف أكتبُ سطْراً واحداً بِلا زَللٍ،
أنا الّذي علّمَني الحبّ كيْف أكتبُ بالضّياء،
وكيْف أرسُم قلْباً
بقَضيبٍ منْ حَديدِ الخَرَسانَةِ،
أنا الذي أدْحضُ مُسلّمُاتِكُمْ وحْدِي:
الهدْم عنْدي أصْعبُ منْ أيّ بِناءِ.
■ ■ ■
أكتبُ بلا ضَمان،
ولا تعْويض عنِ العجْز الذي يصيبُ كلمَاتي،
وبدون أيّ احتياطٍ ضدّ فُقْدان الشِّعْر،
ولا أيّ حقّ في التَقاعد،
فأنا إنْ كنتُ لا أعيشُ ممّا أكتبُ
فإنّني أعيش بِه،
لاحِظوا مكْرَ حُروف الجرّ،
حينَ تصِير في يدِ شاعِر بدون حقُوق،
احْذَرُوا.. إنّه يستَطيع أن يصْنع الكثير باللّغة،
يسْتطيع أنْ يسْتنفِر جَماهير الكَلماتِ
ويجْعلها تهْتف بصوْت هادِرٍ:
اِرْحَلْ،
يسْتطيع أنْ يُشعل ثوْرة،
ويتْركُها تمْضي علَى عَواهِنِها
كأيّ مُناكِحَةٍ في خنْدق للقِتال باسْم الربّ،
احْذَروا.. إنّه أخْرقْ.
■ ■ ■
أكتبُ بلوْثَةِ ساحِرٍ،
اُنظُروا،
سأجْعلُ الحَمام منْ صدْري يطِيرُ،
وأترُكهُ فوْقَكُمُ - معْشَر العَاشِقين - يحُطُّ،
سأنْطِقُ أمامَكُمْ بالنّحْلِ،
وأكْتبُ قصِيدة نثْرٍ بالفرَاشاتِ،
ثمّ أتْركُها تُرفْرفُ بيْنكُم إلى الأَبَدِ،
سأجْعلُ العَنادِلَ جذْلَى تَتفَتّقُ منْ يَديَّ،
وأتْركُها فوْقَ أنَامِلي تشْدُو.
اِبْقوْا قلِيلاً،
سأجْعلُ للبَنادِق شدْوَ العَنادِل،
وأجْعلُ للقَنابل إنْ شئْتُمْ ظِلالَ السنابِل،
سأنْفخُ في كلمَاتي،
كأيِّ شاعِر مُدجّجٍ بالحُبّ،
وأجْعلُ أيَاديكُم كلّما تلامَسْتُمْ تُضِيءُ،
اِنْتظرُوا قلِيلاً،
سأوقِفُ - بعْدَ إذْنِكُمُ - الأرْضَ،
كيْ تنْزلَ الحرْبُ.
■ ■ ■
أكتبُ بدونِ تأمِين ضدّ الحَريق،
وأنا مُرشّح للحَرائق في كلّ جِين،
أحْلامي حشائشُ يابسةٌ،
وقلْبي عُودُ ثِقَاب.
أكْتبُ أيضاً بلا تأمينٍ ضدّ السّرقاتِ،
وكلُّ ما أكتبُ أتْركُه مشاعاً للسّارقِين،
فليْس لدَيّ ما أصنعُه بهِ،
هي بالنسبة لي خَراطيشُ مُستعْملةٌ،
تالله، كنتُ سأقُولُ حفّاظاتٍ مستعملةٍ،
لكنّي تراجعْتُ منْ تلْقَاءِ حيَائي
ومن دونِ سبَبٍ لِتفْضيل الخَراطيش عن الحفّاظاتِ،
بلْ، وما شأنُكمْ أنتمْ أنْ أخْتار هذِه أوتلْك،
فسَارقُو الكلماتِ همْ أجْمل السارقين طرّاً،
يتَزيّنُون بمَا سرِقوا ساعةً،
ثمّ يشْعُرون بها مثْل ملابسَ مُكْتَراة،
ويحْرِصُون بشدّةٍ ألّا يمسّها أيّ ضَرَر،
هذَا، من غيْر أنْ أسرَّ لكمْ،
أنّني أبْتهجُ حينَ أرى أحداً يتَمايل طرَباً،
في عُرْسٍ بالحيّ أمَام عشِيقتِه،
بقَميصٍ مُخطّطٍ لِي أوْ بربْطة عُنقِي،
فأشْعر أنّنا فِي العشْق شَريكانِ.
■ ■ ■
أكتبُ .. بمِزاج زَهّارٍ،
أنامُ مُضمّخاً بالأرَائجِ في بُسْتان المَجاز،
حتّى إذَا عانَقَ طيْفي طيْفَ موْلاتي،
تَضرّعْتُ لها فِي المَنامِ،
وتضوّعتْ بيْن ذراعيْها أشْعاري.
أحْلمُ بالأزْهارِ،
تمَامًا كمَا في الأحْلام،
وأصْحُو في الصّبْح على ِرسْلِي..
العُشّاق في الغَالِب،
لا يبْتَاعُون الورْدَ قبْل مُنتصفِ النّهارِ.
هذِه باقَاتِي،
أعدُّها ممّا تفَتّح منْ كلمَاتي،
فيا ليْتَ لي شُرْفةً صدْرَ موْلاتي،
لأزْرعَ القَصائدَ فِي الأُصُصِ،
يا ليْتَ قلْبَها مزْهريّهْ.
بطاقة
سامح درويش شاعر وكاتب مغربي من مواليد 1957 في منتزه تكفايت بمدينة جرادة المنجمية شرقَي المغرب، حاصل على شهادة الدراسات العليا المعمّقة في الأدب المغاربي. صدر له في السرد: "هباء خاص" (1999)، و"ألواح خنساسا" (2004)، والشعر: "القهقهات" (2010)، و"كتاب شطحات الدرويش" (2014)، و"خنافس مضيئة" (2015)، و"برشاقة أكروبات" (2015)، و"100 هايكو" (2016)، و"مئة هايكو و هايكو" (2017)، و"ما أكثرني مع قطرات الندى أتقاطر". له أيضاً عدد من الإصدارات المشتركة.