لم يَسَع "مدرج الشريف الإدريسي" في "كلية الآداب والعلوم الإنسانية - جامعة محمد الخامس" في الرباط الراغبين في حضور تكريم المفكر عبد الله العروي (1933) الذي نظمته الجامعة بالاشتراك مع "كرسي معهد العالم العربي" (باريس) يوم الخميس 18 كانون الثاني/ يناير الجاري، فافترش البعض الأرض. احتفاء أتته الكثير من الوجوه الثقافية والسياسية والأكاديمية.
"الأستاذ"، كما دعته إحدى المشاركات، خديجة الصبار، ظلّ يستمع بإمعان لجميع المداخلات. في لحظة وحيدة أخذ قلماً ودوّن ملاحظة خلال تدخّل الأستاذ في جامعة برلين، نيلس ريكن، وحين اختتمت جميع المداخلات، تحدّث العروي باقتصاب معلناً أنه قال كل ما يمكن قوله في مجاله، داعياً إلى التمييز بين الفرد، بما هو فرد، والفرد كعضو في المجتمع.
تضمّن التكريم جلستين، الأولى قاربت علاقة العرب بالحداثة، والثانية خُصّصت لـ "تلقي فكر العروي". في كلمته، تساءل سعيد بنسعيد العلوي، وهو يترأس الجلسة الأولى، "كيف تمثّل العالم العربي الحداثة؟ وكيف ندخل إلى العالم الحديث وعلاقتُنا مضطربة مع الحداثة؟"، فيما تحدّث عبد السلام بنعبد العالي عن "الحداثة المتلكئة"، معتبراً الحداثة موقفاً وإرادة، وما يميّزها هو تنكرها لذاتها بفعل أنها حركة تاريخية لم ترضَ عن نفسها.
الحداثة، يشير بنعبد العالي، لم ترتح لمفهوم الفرد ولا الحرية ولا العقل ولا الديمقراطية، لم تُقنع ولم تقتنع. يضيف "وبفعل أن التوجس بنية معرفية، فقد نسجت من الجرح سمة الكائن. وأمام ارتكاسية الواقع، ولأن أغلبنا لا ينظر إلى الحداثة في حركيتها، فقد تم اختزال الحداثة في مفاهيم محظورة. وضعٌ متوتر يدخل في صراع مع واقع، والحداثة نفسها علاقة متفجرة مع الماضي والمستقبل".
من جهته، عرّج حسن أوريد على واقعنا، من خلال قراءة تشخيصية، حيث "كان العالم العربي منفعلاً أكثر منه فاعلاً"، مستقصياً وضعيات التأزيم وحالات التمزّق في راهننا العربي. يرى أوريد أن الحداثة "عبرت الكثير من الأخاديد والمنعرجات العميقة في راهننا المستعصي، وتشكلت أمامها وضعيات استشكالية لأسباب مثل تفشي الأمية والانهيارات العميقة التي مسّت الشعارات الكبرى (القومية والماركسية...)، إلى جانب وضعيات اجتماعية هشة". يتساءل عما يمكن فعله اليوم؟ ويجد أن الانفتاح على العلوم والتفكير في أسئلة حقيقية هو الكفيل بزحزحة الواقع، أليست الأفكار، كما قال في مطلع مداخلته، أشبه بالأشجار؟
واتجه محمد الداهي إلى مقولة فقدان الهالة، مؤكداً في بداية ورقته، على أن "مفهوم الحداثة لا يطابق بنية المجتمعات العربية، وهو ما يحول دون اكتماله. صيغة اللامطابقة واللااكتمال في مواجهة مفهوم الحداثة المكتمل في العالم الغربي، وهو ما يستدعي مشروعية سؤال الاستنبات في تربة غريبة عنها وتهجينها. وحين يتم التفكير في البحث عن حداثة عربية، ونركب سفينتها، تظهر الحداثة بوجهين، أحدهما يخفي الآخر، بل ومع الانفجار التكنولوجي اختفى النصف الآخر (البعد الإنساني)".
توقف الداهي كثيراً عند حداثة بودلير، والذي "بلور تصوّراً عنها في الكثير من اجتهاداته، في حين يفتقر الباحثون العرب إلى تصوّر شمولي عنها". يتابع "بودلير لم يفكر في الحداثة من أجل إحداث قطيعة فقط، بل أيضاً كنمط سلوك، وهنا الحداثة موقف وليست مرحلة بعينها. لقد شيّدت حداثة بودلير، حداثتها الثقافية ضداً على الحداثة السياسية". تثير مداخلة محمد الداهي، في ربطها المفهوم بالشعر والفن، سؤالاً مفاده كيف يمكن للذات أن تعيش راهنها، رغم أن كل حداثة مآلها التلاشي؟
الجلسة الثانية، والتي أطّرها الباحث عبدالمجيد قدوري، ارتكزت على أوراق جيل جديد من الباحثين وقراءاتهم في منجز صاحب "مجمل تاريخ المغرب". توقف أستاذ الفلسفة في جامعة برلين، نيلس ريكن، عند التاريخانية والزمنية والسياسية في فكر العروي.
انطلق الباحث من خلاصة أساسية تقول بأنه "لا يمكن أن نقرأ من منظور واحد أعمال العروي، إذ يواجه الباحث صعوبات في قراءة أعماله واجتهاداته". يعترف ريكن أن كتابات العروي غيّرت منظوره للتاريخ كباحث في التاريخ. يعتبر ريكن أن "مقولات العروي، تترك أثرها عند محاولة تحليل التاريخ كسؤال ومبحث، وكتشكل للزمن، ليس في الماضي فحسب ولكن كرؤية للحاضر. ولعل هذا العمق الإبستيمولوجي، هو ما أضفى بعداً آخر واجتهاداً إضافياً لرؤية الحداثة والتاريخ، ولعل ميزة العروي هي في رؤيته النقدية للتاريخ وعمقها المعرفي، مع التأكيد على المفاهيم التي طوّرها في كتاباته".
خديجة الصبار تحدّثت عن "صعوبة فكر عبد الله العروي أمام المتلقي"، واستدعت الباحثة مقولة مركزية للعروي حين أكد أن ما يعيشه العالم اليوم، دفعه إلى مراجعة كل ما كتبه واحتفظ بكلمة واحدة: الإنسان الذي يصنع التاريخ، فانسلاخ الفكر عن سياقه يزيحه عن علميته.
وتتساءل الصبار: هل إن فكر العروي مستغلق بمرجعياته ومنهاجه؟ علماً أن الرجل عاش في مغرب مليء بالأسئلة الحادة. فكرُ العروي -بحسبها- مكتنز متشعّب في اتجاه الإنساني، حيث الرؤية بعمق بدل عمق الرؤية، والنفاذ إلى الأعماق لفهم دينامية الأحداث بدل تسنينها، ولعلها محاولة اجتهاد للاقتراب من المتلقي. تضيف: "ولا يمكن هنا التفاعل مع كتابات العروي دون قراءة المشروع برمته".
ترى الصبار أن "الطرح النظري في "الأيديولوجية العربية المعاصرة" يواجه العديد من المسلمات، طرح جوهره الحداثة والتمدن والمقاربة النقدية وتبني مواقف لا رمادي فيها. مع العروي لا نصل إلى نتائج بسهولة، في ظل فكر يستند بمرجعية تاريخية ومنطق تاريخي وفهم أشمل، يربط بين التحديث السياسي والتحديث الاجتماعي. لا تجدي قراءة انتقائية لفكر العروي، ولا نقرأ بل ندرس".
وقارب محمد العزري "البعد الديداكتيكي في بناء المفاهيم عند عبد الله العروي"، حيث اعتبر أن "قراءة النسق الفكري للعروي، هو مجهود لتقريب أطروحته وضرورة ابستيمية". ولتتبع أشكال الحضور المفاهيمي، أكّد الباحث على "ضرورة تخصيص مؤلفات خاصة للتدقيق في بعض المفاهيم لتثبيت قنوات التواصل. من خلال رصد المرجعية الإبستيمولوجية لتطور هذه المفاهيم وإبراز التمثلات وكيفية تلقيها عند النخب". يضيف: "إن اعتماد مفهوم العقل هو مدخل أساسي لرصد العقلانية، وتكسير لكل الخيارات التوفيقية، حيث الإنسان كائن أيديولوجي خطاء".
هل يمكن تحقيق الديمقراطية في مجتمع هش ونخب هشة؟ سؤال ضمن أسئلة يوردها الباحث، وهو يشير لمفهوم الحداثة التي تتطلب سياقاً تاريخياً بطيئاً، معتبراً أنه لا تحديث إلا بالدولة، ومشيراً إلى أن "الحداثة عند العروي حركية دؤوبة، في تحدٍّ مستمر وبعث للسؤال المتجدّد لاستدراك التأخر التاريخي، والثقافة التقليدية حاجز لفهم الحاضر". يشير الباحث إلى أن نص العروي يتجاوز صاحبه، فهو يكتب ليؤسس مشروعاً نقدياً، وهو ما يطرح إشكالات على مستوى التلقي، وإشكالات مفاهيمية عند النخب، لأنه أساساً فكر ينازع المسلمات والمطلق.
أخيراً، توقف محمد الشيخ عند "حضور مؤلفات عبد الله العروي في الكتابات الأنكلوسكسونية" معتمداً على نموذج كتاب "الأيديولوجية العربية المعاصرة". يذكر الشيخ أنه "منذ 1967، شخّص العروي العطب القديم، وقد استُقبل الكتاب استقبالاً جيداً، ولو أن فعل الاستقبال لا يخلو من مفارقات". إذ تُرجمت كتب العروي إلى العديد من اللغات، وطرحت العديد من الأسئلة في العالم العربي حول تلقي مشروع العروي. ورغم عدم ترجمة كتاب "الأيديولوجية العربية المعاصرة" إلى الإنكليزية، فقد اعتبرت الجدة وطرحه لقضايا إشكالية من بين مداخل قراءة هذا الكتاب، بحسب الشيخ.
تتبع الباحث خمسة نماذج لحضور مؤلف العروي في الكتابات الأنكلوسكسونية، تتناول راهنية فكر العروي، لينتهي إلى اعتبار العروي "مفكراً علّمنا سِحر الحداثة".