في الوقت الذي تغرق فيه الحركة التشكيلية العربية في الأعمال الفنية التي تدغدغ ما ينتظره الجمهور ويتوقعه، بحيث لا تصلح في نهاية المطاف سوى لتأثيث الصالونات الفاخرة، وفي الوقت الذي ينغمر فيه الفن العربي المعاصر في أحيان كثيرة في منجزات فنية كثيرًا ما يستعصي الإمساك بها حتى لدى الفنانين أنفسهم، تظهر بين الفينة والأخرى تجارب تنفلت من عقال الجمال والمنتظَر والمألوف، كي تجعلنا نعيش الدهشة الأولى للإبداع. إنها أعمال تولد ناضجة مكتملة في تصورها وتصويرها، لا تنتظر موافقة المشاهد ولا حسه الجمالي كي تستوي فنًا. هذه التجارب، ترمي بالجاهز والمستحسَن في فراغ اللامعنى لتخلق المعنى في مساءلتها لنا وفي غرابتها الآسرة.
تلك هي أعمال عبد الرحيم عقبي، الذي يحمل في جسده ونظرته ندوب الوجود و يبلور بيده أخاديد اللوحة. فحين اكتشفتُ أعمال هذا الفنان من سنوات قليلة فقط في رواق "ماتيس" بمراكش، أحسست للوهلة الأولى، ومن غير أن أتعرف إليه بعد، بأنه يعيش اللوحة كلحظة كينونة غائرة في العمق. هكذا وجدت نفسي وأنا أرى كائناته المشوهة، التي تتسربل في التحولات المسخية أمام منظور كافكاوي يعيد صياغة الجسد بما هو كناية على الإنسان أكثر منه صورة له. وكأننا بالفنان يدخل مغارته الخاصة ليستنير فيها بعتمة الطابع الوحشي لكائناته، يتركها تتبلور وكأنها خارجة للتوّ من فيلم من أفلام الرعب. تحمل جسدها أو بالأحرى تجرجره وكأنه شيء من ضمن الأشياء التي لا شكل لها سوى غيريتها الجذرية.
يشتغل عقبي بجسده الضامر كما لو أنه يصارع الزمن وثقله القاهر. يجعل من اللوحات الهائلة بحره ومرآته التي ينعكس فيها بأحشائه وبواطنه. يغرس الشخصيات الهلامية اللامتحددة كما لو أنها شجرات للقلق، يكثفها في عموديتها كما لو أنه يمنح طابعها الوحشي سموقًا إنسانيًا فيما وراء الإنسية. يجعلها تتشابك وتتحاور، وتبني في تجمّعها ذاك فرادتها التي لا تقبل الإدراك. هو يمنحها وجودها العاري من الوضوح، ويجعلها ترفل في صخب اختلافها، يمنحها وداعة "أحدب نوتردام" وطيبة الوحش العاشق للحسناء. يغلفها في كيانها الحرفي، وينسج من خلال ذلك حكاية متوالدة مرئية. وما نراه يستعصي على الوصف حتى وهو يتشكل كحكاية. فكل كيان لا يتحدَّد بذاته ولا باكتماله، وإنما بما ينقصه أو بالأحرى بما يجعله يشذ عن القول.
حين نرتاد هذا العالم الاستثنائي الموازي، لا يمكن إلا أن نحس بغرابتنا نحن عنه، لا لأنه يصدّنا ولكن لأنه يفتننا بطابعه الاجتماعي. فالكائنات التي يشخصنها عقبي تبدو بلا وجه ولا قفا، بلا أرجل وبلا رأس، عبارة عن أجساد تذكرنا أكثر بأعمال عزيز أبو علي الفنان المغربي الذي عاش في إسبانيا ورحل في صمت وكأنه تماهى للأبد مع شخصياته المعذبة. كما تحيل في جوانب منها وبشكل أقل، لعوالم وحكايات الفنان محمد الإدريسي، بفظاعتها وقبحها وتجردها من اللحم كما من اللباس. إنها أيضا تجربة قريبة أيضًا في جانبها الجواني من أعمال الفنان الكردي العراقي سيروان باران وبالأخص الفنان السوري سبهان آدم. وإذا كان عالم هذين الأخيرين أقل كثافة، فلأن شخوصهما تسعى لبناء المعنى واستشكال العالم المحيط. أما أعمال عبد الرحيم عقبي، فإنها من الكثافة بحيث تبدو وكأنها ذات طابع أخروي. فهي تعجّ بالشخوص والتشابكات والتشاكلات بحيث يكاد فيها الطابع الإنساني ينمحي كلية لا في شكله الخارجي المميز فقط وإنما أيضًا في جنسه واختلافه.
ما تنضح به هذه اللوحات هو استحالة المعنى والسعي إلى كشط قعره الممكن بالسير نحو أغواره وتخومه الغامضة. لا بغية السخرية من العالم والكائن فقط، وإنما بغرض الكشف عن الوحش الذي نحمله فينا من غير أن نعترف به. فالفنان يخرج شياطينه الداخلية ويحررها في اللوحة كي تغدو سيدة المكان، بالكثير من التعبيرية "البيكونية" (نسبة إلى الفنان فرنسيس بيكون) وبالأكثر من اللعب الكافكاوي على لا معنى الوجود.
وحين لا يدخل عقبي لمغارة اللوحة التي يغرقها في القتامة السادرة، يُكْثِر من الرسم. ورسومه التي أفضلها ليست تلك التي تكون اشتغالًا تمهيديًا يفضي للوحة، وإنما تلك الرسوم المفردة الصغيرة التي يستفرد فيها بكائناته ليشكلها في بشاعتها الأولية البائية. إنها كائنات لا أرجل لها ولا رأس مميز، والعينان تغدوان أشبه برأسين. وهو ما يجعلنا نتساءل عما يبتغيه الفنان من هذه الهجانة المدروسة التي لا بلاغة فيها؟ أهي أضغاث كوابيس؟
يبني عقبي عالمه ويبلوره عبر الانتقال من الجماعة إلى عالم أقل كثافة. وربما كان للرسوم الصغيرة أثر في ذلك، وكأنه صار يتآلف مع الشخوص باعتبارها هوية ممكنة حتى وهي تنمحي فيها كل عناصرها. وما يبلور أحيانا تلك "الهوية" (والهوية في العربية مبنية على الـ هو، أي الغائب) هي عناصر كنائية كالعينين أو الشعر أو النهدين، تأتي لتمنح بصيصًا إنسانيًا ممكنًا لهذه الكائنات الهلامية التي تحاكي بشكل مأساوي الصور الإنسية. هكذا يبني عقبي مأساوية عالمه بما يمكن اعتباره تشخيصية جديدة، تحيل أحيانًا أيضًا إلى عالم "جيمس إنسور" في فوضويتها التي تشبه فوضوية الفنان.
ثمة في عالم عقبي الكثير من الرغبة المبطّنة في تلافيف الجسد الشذري والمتلف. تتبدى الرغبة في التواصل بالعين كما في التحدد النوعي من خلال النهدين.
وثمة فيه أيضًا الكثير من الهوْس في التكرار وفي تشويه المعطى وتحويل المحسوس إلى طيف. كما فيه الأكثر من المعاناة التي تتبدى في مأساوية العزلة في عالم لا تتلاقى فيه تلك الكيانات إلا لتمحو مفهوم التفاعل الاجتماعي وتبني عوضه العزلة اللامتحددة ضمن كائنات ما قبل بشرية أو ما بعد إنسية.
في لجّة هذه التحويلات والتشويهات نلمس نبرة وداعة خافتة تنبع من ترويض الفنان لنا لهذه البشاعة التي لا تحتمل قساوتها. تلك هي الحكاية الرئيسية التي تتشكل نبراتها مما تردده على مسامعنا: هذا عالمكم الباطن، فاستكشفوه هنا، مثلما دعانا السّهروردي إلى استكشاف الوجود في حكاية معراجه المهولة.