فوجئ الثلاثيني الغزي محمد الشيخ عيد، بخروج فقاعات بيضاء من جدران منزله المبلل بعد تعرضه للأمطار، ما دفعه لسؤال البنّاء عن سبب ذلك، فكانت المفاجأة بأن خلطة الإسمنت التي شُيدت منها جدران منزله الواقع بمنطقة شرقي رفح، في جنوب قطاع غزة، أُضيف الصابون إليها، ما أدى لاحقا إلى تشقق وتساقط كتل إسمنتية منها، نتيجة ضعف بناء المنزل، الذي لم يمض على إنشائه إلا أربعة أعوام.
في المنطقة ذاتها رصد معد التحقيق، 30 منزلا ومشروع بناء جنوبي قطاع غزة، أضاف بنّاؤوها أنواعا مختلفة من الصابون السائل والشامبو إلى خلطات الإسمنت، خلال شهري ديسمبر/كانون الأول ويناير/كانون الثاني الماضيين، وهو ما يصفه البنّاء فادي أبو ضباع بالممارسة الهادفة إلى إكساب خلطة الإسمنت مزيدا من الليونة والمرونة، ليسهل العمل بها، قائلا لـ"العربي الجديد": "لا يوجد مقاول أو بنّاء في غزة يمكن أن يستغني عن الصابون في عمله، البديل هو الجير، وسعر الجوال منه 35 شيكلا (9.94 دولارات أميركية)، ويتم خلطه مع ثلاثة أجولة إسمنت"، بينما ثمن عبوة الصابون السائل 4 شواكل "1.14 دولار"، وتكفي العبوة التي تحتوي على لتر واحد لخلط خمسة أجولة من الإسمنت، والأهم من ذلك والحديث لأبو ضباع، أن الجير يؤدي إلى إصابات مؤلمة ليد البنّاء في حال استخدامه، ولا يعطي ليونة بنفس درجة الصابون.
دراسة تكشف خطورة استخدام الصابون في البناء
بعد شيوع ظاهرة خلط الصابون بالإسمنت خلال العقد الأخير، أجرى خمسة طلاب من قسم الهندسة المدنية بكلية الهندسة في الجامعة الإسلامية بغزة، تجربة عملية في عام 2015، لقياس قوة مكعبات الإسمنت ووزنها في حال أضيف إليها الصابون.
وكشفت نتائج التجربة أن إضافة الصابون يزيد الفراغات داخل الخلطة الإسمنتية، وبالتالي يؤثر سلباً على قوتها، إذ تسبب الرغوة فجوات هواء داخل الخلطة، كما أن المكعب الإسمنتي المحتوي على صابون وزنه أخف من مثيله غير المحتوي على الصابون بنسبة 15.5%، بينما قوة المكعب الذي احتوى على صابون أقل بنسبة 37.7%، عن مثيله الذي لم يستخدم فيه الصابون.
الأخطر من ذلك أن التجربة التي أجراها معدو الدراسة أظهرت أن نتائج الفراغات التي تنتج عن فقاعات الصابون يمكن أن تستوطنها مواد عضوية وتتكاثر فيها، وبالتالي عند زيادة عددها يحدث إجهاد داخلي للإسمنت يؤدي لظهور التشققات، وفق ما قاله طالب كلية الهندسة في الجامعة الإسلامية أحمد أبو قاعود والذي شارك في إجراء الدراسة، وهو ما أكده الدكتور مأمون القدرة، أستاذ الهندسة المدنية بكلية الهندسة في الجامعة الإسلامية بغزة، والمشرف على التجربة، مبيناً أن ثمة شكوك قديمة لدى جموع المهندسين في قطاع غزة من وجود مخاطر محتملة لمثل هذه المواد غير المدرجة أصلاً في عالم الهندسة والبناء، ما استدعى إجراء التجربة.
وأوضح أن التجربة أكدت شكوك المختصين بدرجة كبيرة، كما أنها أعطت دلالات لوجود خلل ومشكلة في دمج مشتقات الصابون مع الإسمنت ومواد البناء.
ودعا الدكتور القدرة لإجراء تجارب ودراسات على مستوى أكبر، لإعطاء نتائج أكثر دقة، معتقداً أن معظم المباني التي تم إنشاؤها باستخدام مشتقات الصابون، ستعاني مستقبلاً من تشققات في حال ابتلت الجدران بالمياه.
مخاطر الإيتا أكثر من الصابون
يلجأ البنّاؤون إلى إضافة المادة الخام المستخدمة في صنع الصابون، إلى خلطة الإسمنت وتسمى "إيتا"، Ethanolamine، وهي تعطي مفعولا أكبر مقارنة بالصابون الجاهز وفقا للبنّاء أبو ضباع.
ويضيف بعض البنائين مواد أخرى تستخدم في صنع الصابون مثل لوراميد (Lauramide)، أو مركبات الأميدو (مركبات عضوية تحتوي مجموعة وظيفية تدعى الأميد amides"، لتمنح الخلطة ليونة مضاعفة، وتسهل تحريكها، بحيث تصبح أكثر ليونة، خاصة في عملية القصارة، (وضع طبقة سميكة من خليط الإسمنت على الجدران بعد بنائها)، وهي مواد تؤدي إلى نشوء فراغات في الإسمنت، في حال تعرضت للماء لاحقا، كما ينتج عنها رغوة وفقاقيع تمكن رؤيتها بوضوح، وفقاً لما رصده الدكتور حسن طموس، أستاذ الكيمياء في جامعة الأزهر بغزة.
مخالفة المعايير الهندسية
يصف المهندس عماد الحوراني مدير فرع نقابة المهندسين في محافظة رفح، وعضو مجلس النقابة العامة، ما يجري من قبل البنّائين، بـ"خلل" وأوضح بعملية البناء وبالمكونات الأساسية لخلطات الإسمنت، قائلا "أي إضافة لا بد أن تكون خاضعة لمعايير هندسية معينة، وتتم بموافقة لجنة هندسية".
ويحدد الحوراني أربعة مكونات أساسية لخلطات الإسمنت المخصصة للبناء والقصارة وهي الإسمنت، والرمل، إضافة إلى الجير والماء، وتوضع بنسب متعارف عليها، "وتختلف ما بين البناء والقصارة، لكنها في الغالب تكون (جوالا واحدا من الإسمنت مضافاً إليه جوال شيد (جير) في مقابل 4 أجولة من الرمل) لكنّ البنّائين يضيفون بعض الملينات، بعضها مسموح وأخرى ممنوعة، فثمة إضافة تسمى "كمخة"، وهي خلاصة معامل الجرانيت، وهناك خلاف عليها، غير أن دراسة أجريت في الجامعة الإسلامية بغزة قبل عدة سنوات، أثبتت أنها غير مضرة، بل على العكس مفيدة، إضافة إلى ملين غراء لاصق يسمى "بيجيبونت"، (اسم تجاري بالعبرية) وهي مادة سائلة مستوردة من دولة الاحتلال، وتستخدم في أعمال القصارة، وهذه المادة مسموحة أيضاً، لكن ثمن الغالون سعة 4 ليترات يصل إلى 60 شيكلا (17 دولاراً)، أما الشامبو أو الصابون، فهذه مكونات غير واردة هندسياً، ولم تجزها أي مدرسة هندسية، وهي مكونات مرفوضة من قبل النقابة التي لا توصي باستخدامها مطلقاً، إذ تؤدي إلى تشققات وتصدعات في الجدران، وتساقط كتل من القصارة، وكذلك ظهور فقاعات صابون ورغوة لدى إصابة الجدار بالبلل، وهي أمور مزعجة لصاحب المسكن، وقد تجبره على إجراء صيانة مستقبلاً، وتكلفه مبالغ مالية.
شركات الاحتلال والأونروا تمنعان إضافة الصابون
في عام 2000 سعى بعض بنّائي غزة لاستخدام الصابون في خلطات الإسمنت التي يقومون بمزجها خلال عملهم في مشروعات سكنية في كيان الاحتلال، غير أن تعليمات مشددة للمهندسين الإسرائيليين، أكدت عدّم استخدامها إذ هددوا بفصل كل عامل عربي يستخدم الصابون، كما يروي المقاول الفلسطيني نصر أحمد، والذي عمل داخل الأراضي المحتلة عام 1948 في الفترة الممتدة ما بين 1972 وحتى 2002، قائلا "شاركت في بناء عشرات المشروعات السكنية والإنشائية المختلفة، وعملت مع عدد كبير من شركات المقاولات الإسرائيلية، واستخدام الصابون في خلطات البناء مرفوض تماما".
وتمنع وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، استخدام أية إضافات خارجية إلى خلطات الإسمنت في مشاريعها في غزة، وتعطي المقاولين العاملين في المشاريع الخاصة بها جملة من الشروط والمقاييس، وتفرض إجراءات ضد كل من يضيف صابوناً، تبدأ بالتخلص من الخلطة، أو حتى هدم جدران وإعادة بنائها، وربما غرامات مالية على المقاولين المخالفين.
وانتهت "أنروا" مؤخرا من إنشاء حي سكني يضم حوالي 1600 وحدة سكنية في مدينة رفح، وآخر يضم 223 منزلا في خان يونس، منعت استخدام مشتقات الصابون فيها، وفق ما أكده المقاولون والعاملون في تلك المشاريع، بالمقابل تم خلال عام 2017 تنفيذ وتصميم 4800 مخطط بناء، جميعها جرى فيها استخدام مشتقات الصابون في عملية البناء والقصارة، وكذلك البلاط، وفق نقابة المهندسين في قطاع غزة، وهو ما يؤكده المقاول الغزي أحمد خالد قائلا "الفترة الماضية شهدت وصول ملينات مجهولة من مصر عبر الأنفاق، وهي مجرد غالونات تحوي مادة بيضاء تشبه الإيتا، تعطي خليط الإسمنت ليونة عالية".
دراسات دولية تتوافق مع المحلية
أجرت المهندسة الكيميائية عبير إسماعيل المتابعة لتطورات حركة العمران، بحثا حول استخدام الصابون في عملية البناء بعد أن استشارت زملاء من قسمي الكيمياء والهندسة المدنية في جامعات مصر والإمارات وتركيا، لكنها فوجئت بعدم استخدامه في البناء في أي مكان.
وأوضحت إسماعيل أن ثمة تجارب دولية أجريت على خلط الإسمنت بالصابون، مدرجة في موقع masonryconstruction المتخصص في البناء والإنشاءات، وكشفت التجربة أن المنظفات السائلة تُكون خليط هواء داخلياً، أثناء عملية الخلط، إذ تتشكل فقاعات هواء صغيرة جداً، تتوزع في جميع أنحاء خليط الإسمنت، وهو ما يفسر خاصية الليونة التي تتمتع بها خلطة الإسمنت المضاف لها الصابون، مما يجعلها قابل للعمل لفترات طويلة، حتى عند تبخر الماء داخل الخليط.
ويؤدي زيادة محتوى الهواء من 4% إلى 14% في خلطة الإسمنت إلى الاحتفاظ بالماء من 70% إلى 97% داخل الخليط (مقياس لقدرة الإسمنت للحفاظ على قابليته للعمل)، حتى بعد الإزالة الجزئية للماء، وفق ما جاء في كتابHenry Plumber's book, Brick and Tile Engineerin.
ولا توصي أي من الدراسات السابقة باستخدام الصابون في خلطات الإسمنت، إذ إن استخدامه غير المنضبط في خليط الإسمنت يقلل كثيراً من قدرته على ربط حجر البناء، كما يمكن أيضا أن يتسبب بتقليل الشد وقوة الضغط، ولاحقا تشقق الجدران وسقوط كتل إسمنتية منها، ناهيك عن احتفاظ الصابون بخصائصه المعروفة بإخراج رغوة كلما تعرض للماء، وهذا ما يفسر ظهور فقاعات رغوة صابون على الجدران المبتلة، والتي سبق أن تم مزج خليط الإسمنت بها، وهو ما يؤكده إياد حمزة العامل في طلاء المنازل بغزة، إذ إن مهنته تجعله يكتشف آثار ومضار الصابون المستخدم في خلطات الإسمنت على الجدران المتشققة، خاصة ظهور التشققات وتساقط الكتل الإسمنتية، بالاضافة إلى فقدان خاصية التصاق الدهانات بالجدار، وهو ما يجبرهم على تغطية الكثير من أجزاء الجدار بخليط الجبص، ودهان الجدار بمواد عازلة، لبقاء الطلاء ثابتاً على الجدار، قائلا "أتمنى وقف هذه الظاهرة المضرة بمباني القطاع وأصحابها".