لعل إصرار نظام بشار الأسد منذ اللحظة الأولى لولادة المساعي الدولية الرامية إلى إيجاد حل سياسي للأزمة التي أعقبت قمعه للثورة أمنياً وعسكرياً، على استخدام مصطلح الإرهاب في أدبياته السياسية والإعلامية، باعتباره العدو الدولي الذي يتصدى له بالنيابة عن العالم، لم يكن مجرد بروباغاندا تستر عورته وتسعى لوصم الطلائع الثورية التي انتفضت في وجهه فحسب، بل كان يعبر عن إدراك مسبق لطبيعة الموقف الأميركي ضده، والذي يدعوه رأسه صراحة للرحيل، فيما يعده في واقع الأمر بإعادة التأهيل، أو بمخرج "مشرف" في نهاية الأمر، الأمر الذي يدفعه للمضي حتى النهاية في طريق الموت والدمار الذي عم السوريين.
تدمر، المدينة الأثرية ذات السمعة الدولية المعروفة، لم تكن استثناء من هذه المعادلة، بل مثلت إحدى أحدث محطات النظام في مسعاه نحو الوصول إلى صفقة تبادل كبرى، تقضي ببقائه، مقابل خدماته "المجرّبة" و"المجدية" في محاربة الإرهاب، وكف شره عن "العالم"، والذي يختزل في عرف اللاعبين الإقليميين والدوليين بالغرب.
منذ أن سيطر تنظيم الدولة قبل نحو عام على مدينة تدمر، في معركة نادرة له مع قوات الأسد، ولم ينشر لها أية صور كما جرت العادة، والشكوك تحوم حول "تسليم" المدينة إلى التنظيم دون معركة حقيقية، بل بانسحاب يشبه إلى حد كبير انسحاب قوات الجيش العراقي من الموصل، بمجرد أن تحرك مقاتلو تنظيم داعش في محافظة صلاح الدين المجاورة، بأمر من نوري المالكي، كما كشف عنه لاحقاً بعدما وقع ما وقع.
ولم يعمد تنظيم داعش إلى بث إصدار مرئي له عما سمي بـ "المعركة الشرسة" التي خاضها في تدمر، وبدلاً من ذلك، راح يوثق جرائمه المدانة على أوسع نطاق، خصوصاً من قبل المجتمع الدولي، كتدمير بعض الآثار التي تشتهر بها المدينة العريقة، ولعل أبشع جريمة ارتكبها قيامه بحرق سجن تدمر العسكري، والذي قضى فيه آلاف المعتقلين في الثمانينيات تحت التعذيب وارتكبت مجزرة بحق المساجين، وبقي السجن حتى بداية عهد الأسد الابن معلماً بارزاً من معالم الحقبة الأسدية الديكتاتورية، بل ومظهراً من أقسى مظاهر الوحشية المعاصرة في العالم، ليمحو التنظيم بفعلته هذه معالم جريمة كانت لتجلب الأسد وجميع أركان حكم والده ممن ما زالوا على قيد الحياة إلى محكمة الجنايات الدولية، لو توفرت إرادة دولية صادقة في إنصاف الشعب السوري وتحقيق العدل الذي يستحقه.
والمفارقة، أن الغالبية الساحقة من المعالم الأثرية في تدمر ظلت على حالها، كما لو أن التنظيم استعرض إرهابه أمام العالم للحظات، وبعدما حقق المطلوب كف يده وجلس ينتظر ساعة الرحيل عن المدينة التي تصرف معها منذ البداية على أنها "وديعة" إلى أجل.
وكما كانت المعركة الأولى المفترضة التي سيطر من خلالها تنظيم الدولة على تدمر، جرت المعركة الأخيرة، على نحو مماثل، مع جلبة كبيرة وضجيج إعلامي كبير، ولكن أيضاً بدون صور تذكر، ما خلا صور شبيحة الأسد يشربون "المتة" بين الأعمدة والحصون التي حصنتها "قدرة قادرة" من القذائف والنيران والقنابل التي تبادلها طرفا "المعركة الشرسة".
حتى هنا يبدو الأمر طبيعياً، ولكن المفاجأة جاءت عندما أعلنت الأمم المتحدة ترحيبها بسيطرة قوات الأسد على المدينة الأثرية، وكأنها لم تنتقل من أيدي إرهابيين إلى أيدي إرهابيين يماثلونهم في مستوى الإرهاب، ويفارقونهم في نقطة، وهي أنهم يوظفون إرهاب أولئك ويصنعون بعض خلاياهم ويقدمون كل ذلك على مذبح الشرعية الدولية.
بدأ الترحيب الأممي على لسان اليونسكو، المنظمة المعنية بالتراث والآثار والثقافة، ثم الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، والذي شعر بـ"الارتياح" على أثر سيطرة الإرهاب الآخر على المدينة، لتنتقل "عدوى" إضفاء الشرعية على قوات الأسد على نحو مبطن، بذريعة حماية التراث العالمي، إلى عواصم الدول العظمى، الأمر الذي يدفعنا للتساؤل: هل كانت تدمر "وديعة" الأسد لدى داعش؟ وهل حققت فائدة مجزية بمرور سنة على إيداعها؟ وهل يعقل أن تخلو جعبة الأسد من مشاريع استثمارية أخرى مماثلة؟
(سورية)
تدمر، المدينة الأثرية ذات السمعة الدولية المعروفة، لم تكن استثناء من هذه المعادلة، بل مثلت إحدى أحدث محطات النظام في مسعاه نحو الوصول إلى صفقة تبادل كبرى، تقضي ببقائه، مقابل خدماته "المجرّبة" و"المجدية" في محاربة الإرهاب، وكف شره عن "العالم"، والذي يختزل في عرف اللاعبين الإقليميين والدوليين بالغرب.
منذ أن سيطر تنظيم الدولة قبل نحو عام على مدينة تدمر، في معركة نادرة له مع قوات الأسد، ولم ينشر لها أية صور كما جرت العادة، والشكوك تحوم حول "تسليم" المدينة إلى التنظيم دون معركة حقيقية، بل بانسحاب يشبه إلى حد كبير انسحاب قوات الجيش العراقي من الموصل، بمجرد أن تحرك مقاتلو تنظيم داعش في محافظة صلاح الدين المجاورة، بأمر من نوري المالكي، كما كشف عنه لاحقاً بعدما وقع ما وقع.
ولم يعمد تنظيم داعش إلى بث إصدار مرئي له عما سمي بـ "المعركة الشرسة" التي خاضها في تدمر، وبدلاً من ذلك، راح يوثق جرائمه المدانة على أوسع نطاق، خصوصاً من قبل المجتمع الدولي، كتدمير بعض الآثار التي تشتهر بها المدينة العريقة، ولعل أبشع جريمة ارتكبها قيامه بحرق سجن تدمر العسكري، والذي قضى فيه آلاف المعتقلين في الثمانينيات تحت التعذيب وارتكبت مجزرة بحق المساجين، وبقي السجن حتى بداية عهد الأسد الابن معلماً بارزاً من معالم الحقبة الأسدية الديكتاتورية، بل ومظهراً من أقسى مظاهر الوحشية المعاصرة في العالم، ليمحو التنظيم بفعلته هذه معالم جريمة كانت لتجلب الأسد وجميع أركان حكم والده ممن ما زالوا على قيد الحياة إلى محكمة الجنايات الدولية، لو توفرت إرادة دولية صادقة في إنصاف الشعب السوري وتحقيق العدل الذي يستحقه.
والمفارقة، أن الغالبية الساحقة من المعالم الأثرية في تدمر ظلت على حالها، كما لو أن التنظيم استعرض إرهابه أمام العالم للحظات، وبعدما حقق المطلوب كف يده وجلس ينتظر ساعة الرحيل عن المدينة التي تصرف معها منذ البداية على أنها "وديعة" إلى أجل.
وكما كانت المعركة الأولى المفترضة التي سيطر من خلالها تنظيم الدولة على تدمر، جرت المعركة الأخيرة، على نحو مماثل، مع جلبة كبيرة وضجيج إعلامي كبير، ولكن أيضاً بدون صور تذكر، ما خلا صور شبيحة الأسد يشربون "المتة" بين الأعمدة والحصون التي حصنتها "قدرة قادرة" من القذائف والنيران والقنابل التي تبادلها طرفا "المعركة الشرسة".
حتى هنا يبدو الأمر طبيعياً، ولكن المفاجأة جاءت عندما أعلنت الأمم المتحدة ترحيبها بسيطرة قوات الأسد على المدينة الأثرية، وكأنها لم تنتقل من أيدي إرهابيين إلى أيدي إرهابيين يماثلونهم في مستوى الإرهاب، ويفارقونهم في نقطة، وهي أنهم يوظفون إرهاب أولئك ويصنعون بعض خلاياهم ويقدمون كل ذلك على مذبح الشرعية الدولية.
بدأ الترحيب الأممي على لسان اليونسكو، المنظمة المعنية بالتراث والآثار والثقافة، ثم الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، والذي شعر بـ"الارتياح" على أثر سيطرة الإرهاب الآخر على المدينة، لتنتقل "عدوى" إضفاء الشرعية على قوات الأسد على نحو مبطن، بذريعة حماية التراث العالمي، إلى عواصم الدول العظمى، الأمر الذي يدفعنا للتساؤل: هل كانت تدمر "وديعة" الأسد لدى داعش؟ وهل حققت فائدة مجزية بمرور سنة على إيداعها؟ وهل يعقل أن تخلو جعبة الأسد من مشاريع استثمارية أخرى مماثلة؟
(سورية)