لم تعرف الجزائر من قبل في تاريخ علاقاتها مع فرنسا منذ الاستقلال، مغادرة مسؤول فرنسي رفيع لها، غاضب لعدم نيله ما يريد، كما حدث مع وزيرها الأول مانويل فالس عقب اختتام أعمال اللجنة المختلطة العليا الجزائرية الفرنسية في دورتها الثالثة في إبريل/ نيسان الماضي.
غضب دفع به إلى نشر صورة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة على حسابه على توتير بشكل يظهره متعباً، الأمر الذي خلّف موجة من ردود الأفعال القوية على المستوى الرسمي الجزائري، منددة بهذا الفعل.
حادثة زادت من حدة التوتر القائم أصلاً بين البلدين في الآونة الأخيرة، بسبب الابتزازات الفرنسية للجزائر قبل انعقاد اللجنة المذكورة بهدف الحصول على أكبر قدر ممكن من التنازلات الاقتصادية، ومع ذلك لم تتم هذه التنازلات، وما حصلت عليه فرنسا لا يتعدى 12 اتفاقاً استثمارياً هامشياً، حيث رفضت الجزائر إتمام عقد إنشاء وحدة لتركيب سيارات بيجو – ستروين، المشروع الذي كانت تعول عليه فرنسا كثيراً بعدما ظفرت قبل سنتين بمشروع مشابه خاص بتركيب سيارة "رونو - سامبول".
من يتابع العلاقات الاقتصادية بين البلدين، يلاحظ جلياً تراجعاً في حصة فرنسا في السوق الجزائرية منذ عام 1999، أمام الصين، وبروز منافسين آخرين على غرار إيطاليا، إسبانيا، ألمانيا، وتركيا. ويرى المتابعون للعلاقات الاقتصادية بين البلدين، أن الجزائر تُستغل كثيراً في العلاقات التجارية مع فرنسا، على حساب شراكات حقيقية لا تريد فرنسا المضي فيها.
تبعاً لذلك، اعترفت وزارة التجارة الخارجية الفرنسية قبل ثلاث سنوات، بتأخر الشركات الفرنسية في الاستثمار داخل الجزائر، حيث تصل الاستثمارات إلى نحو 6 مليارات دولار، لا سيما في قطاع السيارات والصيدلة والبناء. وقد أبدت فرنسا انزعاجها من تراجع حجم الاستثمارات في الجزائر أمام منافسيها الجدد، بعد دخول الاقتصاد الجزائري مسارا جديدا بعيدا عن العباءة الفرنسية.
انخفاض الواردات
وتظهر بيانات مركز الإحصاء التابع للجمارك الجزائرية أن واردات الجزائر من فرنسا، تراجعت من 22.8% من مجمل وارداتها إلى 15.7% عام 2009، وبالمقابل فقدت فرنسا أيضاً مرتبتها كممول أول للجزائر لصالح الصين عام 2013 حيث سجلت قيمة الواردات الجزائرية من فرنسا 625 مليون دولار مقابل 681 مليون دولار للصين، وهي سابقة في تاريخ العلاقات التجارية الجزائرية الفرنسية.
وتبعاً لهذا التحول في الاقتصاد الوطني وانسلاخه التدريجي من التبعية الاقتصادية الفرنسية، ربط العديد من المراقبين هذا التحول بوجود بوادر تحول كبيرة في ذهنية التسيير الجزائرية، فيما ربطه البعض الآخر بنهاية ما سمّوه الوصاية الفرنسية على الجزائر، وبروز جيل جديد من المسؤولين يريدون التخلص نهائياً من الهيمنة الفرنسية.
يقول الخبير الاقتصادي عبد السلام مخلوفي: "إن هذا أمر واقع، إذ تكفينا وصاية سياسية واقتصادية فرنسية، وفي إطار العولمة الاقتصادية، على الجزائر أن تتجه نحو دول آسيا وأميركا"، متسائلاً عن سبب سيطرة فرنسا اقتصادياً واحتكارها العديد من المشاريع، داعياً إلى ضرورة إنهاء الوصاية الاقتصادية الفرنسية.
اقــرأ أيضاً
وبحسب مخلوفي، فإن العلاقات في الاقتصاد الدولي تقوم على أساس مبدأ رابح - رابح، وليس على مبدأ رابح - خاسر، كما هو حاصل في العلاقات الفرنسية الجزائرية. فالشراكة الاقتصادية الجزائرية - الفرنسية طيلة السنوات الماضية، كانت شراكة مجحفة جداً بحق الاقتصاد الجزائري، مشيراً إلى أن الاتفاق الذي تم توقيعه مع الاتحاد الأوروبي، استفادت فرنسا منه بشكل كبير، إذ إنه عند تصديرنا بقيمة دينار واحد، فإننا نستورد مقابله بقيمة 20 ديناراً.
ويقول مخلوفي: "يستحيل على الاقتصاد الانفصال عن السياسة، وبالتالي فإن هذا التوجه الاقتصادي الجديد للبلاد، يجب أن يسبقه توجه سياسي وإرادة سياسية قوية. ففي إطار الاقتصاد، نتكلم عن المصلحة لا غير، وكما نحن الآن نتكلم عن تعدد وتنوع مصادر الدخل الوطني، فعلينا أيضاً أن نعدد الشركاء الاقتصاديين، مشيراً إلى أنه كما تأكد إفلاس الاعتماد على النفط كمصدر وحيد للدخل، كذلك ستفلس قناعة التوجه بصورة كبيرة نحو الاقتصاد الفرنسي.
مرحلة ظرفية
يؤكد الخبير الاقتصادي فريد بن يحيى، أن العلاقات الجزائرية الفرنسية حالياً تمر بمرحلة اضطرابات ظرفية، كون العلاقات بين البلدين "استراتيجية"، ويقول: "منذ تولي الرئيس بوتفليقة سدة الحكم حاول بناء علاقات اقتصادية واجتماعية متينة مع فرنسا، بالإضافة إلى التشاور السياسي، وعلى هذا الأساس قدمت الجزائر الكثير لفرنسا، وقد تم إنقاذ العديد من الشركات الفرنسية التي كانت على شفير الإفلاس عبر استفادتها من مختلف الاستثمارات بالجزائر، وفي مقابل ذلك مالت السياسة الاقتصادية الفرنسية نحو المغرب وتونس".
ويشير بن يحيى إلى أنه عندما بدأت فرنسا تشعر بالخطر على مكانتها الاقتصادية، بعد شروع الحكومة في تطبيق توجه جديد قائم على تطوير العلاقات مع موسكو والصين، وغيرها من الدول، ومخالفة فرنسا في الكثير من سياساتها الخارجية، حرك هذا التوجه توتراً بين البلدين، لكنه توتر لا يتعدى كونه سحابة صيف عابرة، وفق بن يحيى.
ويدعو بن يحيى فرنسا بالمقابل إلى إعادة ترتيب أوراقها جيداً مع الجزائر، كما أن الجزائر لن تميل كلياً إلى جهات اقتصادية أخرى، وتنسج تحالفات اقتصادية وسياسية مغايرة تماماً، لافتا إلى أن العلاقات الجزائرية الفرنسية، ومنذ الاستقلال مرت بفترات جيدة، وأخرى عصيبة، لكن في الآونة الأخيرة قررت الجزائر أن تبني علاقات شراكة وتعاون حقيقية، والقفز على ذكريات الماضي وفتح صفحة جديدة تكون فيها العلاقات قائمة بين الدولتين على أساس الاحترام والمنفعة المتبادلتين، لكن الفرنسيين لم يهضموا بعد استقلال الجزائر، خاصة بعض الأطراف اليمينية عندهم.
غياب المشاريع
إلى ذلك، يؤكد الخبير الاقتصادي عبد المالك سراي، أنه تم أخيراً رفض مشاريع عديدة جرت برمجتها مع الجانب الفرنسي في العديد من القطاعات، كالتعليم والتحويل التكنولوجي، لأن الفرنسيين وضعوا العديد من المطالب التي لم تعد مقبولة من قبل الجزائر، مشيراً إلى أن هناك توجهاً اقتصادياً جديداً خاصة نحو ألمانيا.
ويقول: "عند زيارة الوزير الأول إلى ألمانيا، تم الاتفاق على دعم الجزائر بالعديد من المشاريع، وتغطية السوق الجزائرية بالتكنولوجيا الألمانية، بالإضافة إلى ضخ استثمارات تتعلق بالقطاع الزراعي، وصناعة السيارات، والأمر نفسه حصل مع دول أخرى مثل بريطانيا وإيران، بالإضافة إلى إيطاليا وإسبانيا، وتعتبر هذه الاتفاقيات بمثابة محاولات جديدة للتخلص من التبعية المطلقة للاقتصاد الفرنسي".
اقــرأ أيضاً
ولفت سراي إلى أن غضب الوزير الأول الفرنسي والوفد المرافق له لم يكن غضباً منفرداً، إذ إن الجانب الجزائري شعر بالانزعاج، ويقول: "قدم الفرنسيون مشاريع هزلية، ناهيك عن مشروع تركيب سيارة بيجو - سيتروان الذي رفضناه، حيث طالبنا بضرورة أن تصل نسبة الإدماج فيه إلى 42% بعد ثلاث سنوات حسب القانون الدولي، لكنهم اقترحوا نسبة أقل من ذلك بكثير، مبررين ذلك بأن الجزائر تفتقر لقاعدة صناعية، ولا يمكننا أن نصل إلى إنتاج نحو 42% من قطع غيار هذه السيارة، وبالتالي فهم يريدون أن تبقى الجزائر مجرد سوق لتسويق سيارات بيجو عن طريق تركيبها واستيراد قطع غيارها من الوحدات الإنتاجية الفرنسية، ولا شك أن ذلك غير مقبول"، مشيراً إلى أن هدف الجزائر خلق العشرات من المؤسسات الصغيرة والمتوسطة لإنتاج قطع غيار السيارات.
وبشأن رفض مشروع تركيب سيارات بيجو مقابل قبول مشروع تركيب سيارة "رونو - سامبول" وبالشروط نفسها، يؤكد سراي أن هذا المشروع أعدت بشأنه العديد من الدراسات المعمقة والدقيقة.
إلى ذلك، يؤكد سراي أن الضغط الشعبي والإعلامي، وكذا التطورات السياسية الحاصلة في البلاد في الآونة الأخيرة، عوامل ساهمت في تغيير التوجه الحكومي، مشيراً إلى أن الكثير من المسؤولين على مستوى الحكومة باتوا اليوم ينفون علانيةً ارتماءهم في الحضن الفرنسي، ويدللون على ذلك بتوجههم الأخير إلى كل من روسيا وبريطانيا وكذا الصين، ودول الخليج العربي لعقد شراكات اقتصادية قوية.
ويختم سراي قائلاً: "بعد نهاية الوصاية السياسية الفرنسية على الجزائر، آن أوان نهاية الوصاية الاقتصادية".
أما الخبير الاقتصادي صالح بلوصيف، فيرى أن الهيمنة الاقتصادية الفرنسية على الاقتصاد الجزائري ليست ظاهرة لصيقة بالجزائر وحدها بل هي ظاهرة عامة لمعظم الدول الأفريقية، نظراً لقوة الاقتصاد الفرنسي ومكانة هذه الدولة في الاتحاد الأوروبي، وحتى في منظمة التجارة العالمية، معترفاً في الوقت نفسه بتدحرج مكانة فرنسا الاقتصادية في الجزائر منذ سنوات التسعينيات.
وبشأن توجه الجزائر أخيراً إلى تنويع الشركاء الاقتصاديين، يؤكد بلوصيف أن هناك توجها براغماتيا ربحيا بحتا (هو مذهب فلسفي سياسي يعتبر نجاح العمل المعيار الوحيد للحقيقة)، جاء في ظل تحولات كبيرة جهوية وإقليمية وحتى دولية، حيث تمت في فترة وجيزة لقاءات اقتصادية رفيعة المستوى على مستوى الحكومة الجزائرية ومسؤولي كل من ألمانيا، روسيا، بريطانيا، وقطر والصين وتركيا، وهذا كله يندرج في إطار التنويع.
واستدل الخبير الاقتصادي بلوصيف على توصيفه هذا بكلمة الوزير الأول عبد المالك سلال، أمام الخبراء الاقتصاديين بمناسبة مرور 50 عاماً على تأسيس المجلس الاقتصادي والاجتماعي، حيث أكد أن توجه الدولة الآن هو توجه براغماتي.
حادثة زادت من حدة التوتر القائم أصلاً بين البلدين في الآونة الأخيرة، بسبب الابتزازات الفرنسية للجزائر قبل انعقاد اللجنة المذكورة بهدف الحصول على أكبر قدر ممكن من التنازلات الاقتصادية، ومع ذلك لم تتم هذه التنازلات، وما حصلت عليه فرنسا لا يتعدى 12 اتفاقاً استثمارياً هامشياً، حيث رفضت الجزائر إتمام عقد إنشاء وحدة لتركيب سيارات بيجو – ستروين، المشروع الذي كانت تعول عليه فرنسا كثيراً بعدما ظفرت قبل سنتين بمشروع مشابه خاص بتركيب سيارة "رونو - سامبول".
من يتابع العلاقات الاقتصادية بين البلدين، يلاحظ جلياً تراجعاً في حصة فرنسا في السوق الجزائرية منذ عام 1999، أمام الصين، وبروز منافسين آخرين على غرار إيطاليا، إسبانيا، ألمانيا، وتركيا. ويرى المتابعون للعلاقات الاقتصادية بين البلدين، أن الجزائر تُستغل كثيراً في العلاقات التجارية مع فرنسا، على حساب شراكات حقيقية لا تريد فرنسا المضي فيها.
تبعاً لذلك، اعترفت وزارة التجارة الخارجية الفرنسية قبل ثلاث سنوات، بتأخر الشركات الفرنسية في الاستثمار داخل الجزائر، حيث تصل الاستثمارات إلى نحو 6 مليارات دولار، لا سيما في قطاع السيارات والصيدلة والبناء. وقد أبدت فرنسا انزعاجها من تراجع حجم الاستثمارات في الجزائر أمام منافسيها الجدد، بعد دخول الاقتصاد الجزائري مسارا جديدا بعيدا عن العباءة الفرنسية.
انخفاض الواردات
وتظهر بيانات مركز الإحصاء التابع للجمارك الجزائرية أن واردات الجزائر من فرنسا، تراجعت من 22.8% من مجمل وارداتها إلى 15.7% عام 2009، وبالمقابل فقدت فرنسا أيضاً مرتبتها كممول أول للجزائر لصالح الصين عام 2013 حيث سجلت قيمة الواردات الجزائرية من فرنسا 625 مليون دولار مقابل 681 مليون دولار للصين، وهي سابقة في تاريخ العلاقات التجارية الجزائرية الفرنسية.
وتبعاً لهذا التحول في الاقتصاد الوطني وانسلاخه التدريجي من التبعية الاقتصادية الفرنسية، ربط العديد من المراقبين هذا التحول بوجود بوادر تحول كبيرة في ذهنية التسيير الجزائرية، فيما ربطه البعض الآخر بنهاية ما سمّوه الوصاية الفرنسية على الجزائر، وبروز جيل جديد من المسؤولين يريدون التخلص نهائياً من الهيمنة الفرنسية.
يقول الخبير الاقتصادي عبد السلام مخلوفي: "إن هذا أمر واقع، إذ تكفينا وصاية سياسية واقتصادية فرنسية، وفي إطار العولمة الاقتصادية، على الجزائر أن تتجه نحو دول آسيا وأميركا"، متسائلاً عن سبب سيطرة فرنسا اقتصادياً واحتكارها العديد من المشاريع، داعياً إلى ضرورة إنهاء الوصاية الاقتصادية الفرنسية.
وبحسب مخلوفي، فإن العلاقات في الاقتصاد الدولي تقوم على أساس مبدأ رابح - رابح، وليس على مبدأ رابح - خاسر، كما هو حاصل في العلاقات الفرنسية الجزائرية. فالشراكة الاقتصادية الجزائرية - الفرنسية طيلة السنوات الماضية، كانت شراكة مجحفة جداً بحق الاقتصاد الجزائري، مشيراً إلى أن الاتفاق الذي تم توقيعه مع الاتحاد الأوروبي، استفادت فرنسا منه بشكل كبير، إذ إنه عند تصديرنا بقيمة دينار واحد، فإننا نستورد مقابله بقيمة 20 ديناراً.
ويقول مخلوفي: "يستحيل على الاقتصاد الانفصال عن السياسة، وبالتالي فإن هذا التوجه الاقتصادي الجديد للبلاد، يجب أن يسبقه توجه سياسي وإرادة سياسية قوية. ففي إطار الاقتصاد، نتكلم عن المصلحة لا غير، وكما نحن الآن نتكلم عن تعدد وتنوع مصادر الدخل الوطني، فعلينا أيضاً أن نعدد الشركاء الاقتصاديين، مشيراً إلى أنه كما تأكد إفلاس الاعتماد على النفط كمصدر وحيد للدخل، كذلك ستفلس قناعة التوجه بصورة كبيرة نحو الاقتصاد الفرنسي.
مرحلة ظرفية
يؤكد الخبير الاقتصادي فريد بن يحيى، أن العلاقات الجزائرية الفرنسية حالياً تمر بمرحلة اضطرابات ظرفية، كون العلاقات بين البلدين "استراتيجية"، ويقول: "منذ تولي الرئيس بوتفليقة سدة الحكم حاول بناء علاقات اقتصادية واجتماعية متينة مع فرنسا، بالإضافة إلى التشاور السياسي، وعلى هذا الأساس قدمت الجزائر الكثير لفرنسا، وقد تم إنقاذ العديد من الشركات الفرنسية التي كانت على شفير الإفلاس عبر استفادتها من مختلف الاستثمارات بالجزائر، وفي مقابل ذلك مالت السياسة الاقتصادية الفرنسية نحو المغرب وتونس".
ويشير بن يحيى إلى أنه عندما بدأت فرنسا تشعر بالخطر على مكانتها الاقتصادية، بعد شروع الحكومة في تطبيق توجه جديد قائم على تطوير العلاقات مع موسكو والصين، وغيرها من الدول، ومخالفة فرنسا في الكثير من سياساتها الخارجية، حرك هذا التوجه توتراً بين البلدين، لكنه توتر لا يتعدى كونه سحابة صيف عابرة، وفق بن يحيى.
ويدعو بن يحيى فرنسا بالمقابل إلى إعادة ترتيب أوراقها جيداً مع الجزائر، كما أن الجزائر لن تميل كلياً إلى جهات اقتصادية أخرى، وتنسج تحالفات اقتصادية وسياسية مغايرة تماماً، لافتا إلى أن العلاقات الجزائرية الفرنسية، ومنذ الاستقلال مرت بفترات جيدة، وأخرى عصيبة، لكن في الآونة الأخيرة قررت الجزائر أن تبني علاقات شراكة وتعاون حقيقية، والقفز على ذكريات الماضي وفتح صفحة جديدة تكون فيها العلاقات قائمة بين الدولتين على أساس الاحترام والمنفعة المتبادلتين، لكن الفرنسيين لم يهضموا بعد استقلال الجزائر، خاصة بعض الأطراف اليمينية عندهم.
غياب المشاريع
إلى ذلك، يؤكد الخبير الاقتصادي عبد المالك سراي، أنه تم أخيراً رفض مشاريع عديدة جرت برمجتها مع الجانب الفرنسي في العديد من القطاعات، كالتعليم والتحويل التكنولوجي، لأن الفرنسيين وضعوا العديد من المطالب التي لم تعد مقبولة من قبل الجزائر، مشيراً إلى أن هناك توجهاً اقتصادياً جديداً خاصة نحو ألمانيا.
ويقول: "عند زيارة الوزير الأول إلى ألمانيا، تم الاتفاق على دعم الجزائر بالعديد من المشاريع، وتغطية السوق الجزائرية بالتكنولوجيا الألمانية، بالإضافة إلى ضخ استثمارات تتعلق بالقطاع الزراعي، وصناعة السيارات، والأمر نفسه حصل مع دول أخرى مثل بريطانيا وإيران، بالإضافة إلى إيطاليا وإسبانيا، وتعتبر هذه الاتفاقيات بمثابة محاولات جديدة للتخلص من التبعية المطلقة للاقتصاد الفرنسي".
ولفت سراي إلى أن غضب الوزير الأول الفرنسي والوفد المرافق له لم يكن غضباً منفرداً، إذ إن الجانب الجزائري شعر بالانزعاج، ويقول: "قدم الفرنسيون مشاريع هزلية، ناهيك عن مشروع تركيب سيارة بيجو - سيتروان الذي رفضناه، حيث طالبنا بضرورة أن تصل نسبة الإدماج فيه إلى 42% بعد ثلاث سنوات حسب القانون الدولي، لكنهم اقترحوا نسبة أقل من ذلك بكثير، مبررين ذلك بأن الجزائر تفتقر لقاعدة صناعية، ولا يمكننا أن نصل إلى إنتاج نحو 42% من قطع غيار هذه السيارة، وبالتالي فهم يريدون أن تبقى الجزائر مجرد سوق لتسويق سيارات بيجو عن طريق تركيبها واستيراد قطع غيارها من الوحدات الإنتاجية الفرنسية، ولا شك أن ذلك غير مقبول"، مشيراً إلى أن هدف الجزائر خلق العشرات من المؤسسات الصغيرة والمتوسطة لإنتاج قطع غيار السيارات.
وبشأن رفض مشروع تركيب سيارات بيجو مقابل قبول مشروع تركيب سيارة "رونو - سامبول" وبالشروط نفسها، يؤكد سراي أن هذا المشروع أعدت بشأنه العديد من الدراسات المعمقة والدقيقة.
إلى ذلك، يؤكد سراي أن الضغط الشعبي والإعلامي، وكذا التطورات السياسية الحاصلة في البلاد في الآونة الأخيرة، عوامل ساهمت في تغيير التوجه الحكومي، مشيراً إلى أن الكثير من المسؤولين على مستوى الحكومة باتوا اليوم ينفون علانيةً ارتماءهم في الحضن الفرنسي، ويدللون على ذلك بتوجههم الأخير إلى كل من روسيا وبريطانيا وكذا الصين، ودول الخليج العربي لعقد شراكات اقتصادية قوية.
ويختم سراي قائلاً: "بعد نهاية الوصاية السياسية الفرنسية على الجزائر، آن أوان نهاية الوصاية الاقتصادية".
أما الخبير الاقتصادي صالح بلوصيف، فيرى أن الهيمنة الاقتصادية الفرنسية على الاقتصاد الجزائري ليست ظاهرة لصيقة بالجزائر وحدها بل هي ظاهرة عامة لمعظم الدول الأفريقية، نظراً لقوة الاقتصاد الفرنسي ومكانة هذه الدولة في الاتحاد الأوروبي، وحتى في منظمة التجارة العالمية، معترفاً في الوقت نفسه بتدحرج مكانة فرنسا الاقتصادية في الجزائر منذ سنوات التسعينيات.
وبشأن توجه الجزائر أخيراً إلى تنويع الشركاء الاقتصاديين، يؤكد بلوصيف أن هناك توجها براغماتيا ربحيا بحتا (هو مذهب فلسفي سياسي يعتبر نجاح العمل المعيار الوحيد للحقيقة)، جاء في ظل تحولات كبيرة جهوية وإقليمية وحتى دولية، حيث تمت في فترة وجيزة لقاءات اقتصادية رفيعة المستوى على مستوى الحكومة الجزائرية ومسؤولي كل من ألمانيا، روسيا، بريطانيا، وقطر والصين وتركيا، وهذا كله يندرج في إطار التنويع.
واستدل الخبير الاقتصادي بلوصيف على توصيفه هذا بكلمة الوزير الأول عبد المالك سلال، أمام الخبراء الاقتصاديين بمناسبة مرور 50 عاماً على تأسيس المجلس الاقتصادي والاجتماعي، حيث أكد أن توجه الدولة الآن هو توجه براغماتي.