المظهر الرئيسي الذي استوقف الأوساط الدولية التي تابعت هذا الحدث الكبير هو أن الانتخابات جرت في أجواء من الهدوء، ولم تسجل تجاوزات أو انتهاكات، وذلك حسب شهادة اللجنة الأوروبية التي تولت مراقبة الانتخابات.
والمظهر الثاني هو كثافة التصويت، والنسبة العالية للمصوّتين التي بلغت حسب الأرقام
الرسمية نسبة 87 % من المسجلين على اللوائح الانتخابية، وهي شبيهة بنظيرتها عام 2015، الأمر الذي يعكس أن تركيا تجاوزت نتائج انقلاب 15 يوليو/تموز 2016 الذي كان يراد منه ضرب التجربة الديموقراطية التركية، والعودة إلى دولة الجيش الذي نصب نفسه وصيا على البلد، وتدخل عدة مرات من أجل التحكم بالمجرى العام والتوجهات والخيارات السياسية والاقتصادية.
وبالنظر إلى ضخامة الحركة الانقلابية والمشاركين فيها، فإن الانتخابات حملت نوعا من الرد على أن حزب العدالة والتنمية استطاع امتصاص الصدمة، وظل حزبا قويا أدار حملته الانتخابية بنجاح، وحقق نتائج لم تكن متوقعة، خالفت الحسابات الداخلية والخارجية، وهذا يعني أن استفتاء الناخب التركي إيجاباً على حكم هذا الحزب الذي ينظر إليه القطاع العريض من الشارع، على أنه صانع الأزهار والاستقرار الاقتصادي والأمني، ورائد المشاريع الاقتصادية العملاقة، والذي استثمر على نحو استراتيجي في البنية التحتية، وخصوصاً المواصلات والصحة والتعليم.
وتشهد النسبة العالية للتصويت أيضا على العافية التي تتمتع بها الديموقراطية التركية، وحالة النضج التي وصلت إليها الطبقة السياسية التركية، من خلال الاحتكام إلى صناديق الاقتراع كخيار وحيد من أجل التقدم والازدهار.
تحمل نتائج الانتخابات التركية رسائل محلية وخارجية عدّة. أولها سقوط رهان قوى إقليمية على نهاية عهد حزب العدالة والتنمية وهزيمة رجب طيب أردوغان، وهذه القوى ليست مجهولة الاسم والعنوان، فهي دعت صراحة إلى هذا من خلال محاولة التأثير على نتائج الانتخابات، عبر ضرب العملة التركية، وقد دعت مواطنيها إلى مقاطعة تركيا سياحيا واستثماريا، وهذه القوى نفسها لعبت دورا غير خفي في انقلاب 2016، وسخّرت إعلامها في الأيام الأخيرة من أجل بروباغندا وحرب نفسية، وتحولت القنوات التلفزية العربية التي احتفلت بالانقلاب إلى منصة دعاية ضد أردوغان والعدالة والتنمية إلى حد أنها شككت بنتائج الانتخابات التي ظهرت من صناديق الاقتراع.
إن فوز "التحالف البرلماني" المشكل من العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية بأكثر من
نصف مقاعد البرلمان، يعني أن الحكومة القادمة التي ستتشكل لن تكون مرتهنة إلى المعارضة في ما يخص السياستين الخارجية الداخلية، وخصوصاً الخيارات الاقتصادية، ومنها المشاريع العملاقة كالمطار الجديد في إسطنبول، والذي من المقرر افتتاح المرحلة الأولى منه في نهاية أكتوبر/تشرين الأول المقبل، وقناة البحرين الأسود ومرمرة التي ستحل محل ممر البوسفور كممر مائي دولي، والأمر الثاني لن تكون هناك أي تغييرات في ما يخص السياسة الخارجية، وخصوصا تجاه سورية.
من النتائج المباشرة للانتخابات التركية أيضا تبدد الغيمة السوداء التي خيّمت فوق اللاجئين السوريين خلال الشهر الأخير، وكانت تكبر وتزداد قتامة كلما اقترب موعد الانتخابات، إذ جعلت منها أحزاب المعارضة ورقة أساسية في الرهان، ويتجاوز الأمر في بعده السياسي قضية وجود أكثر من ثلاثة ملايين لاجئ سوري في تركيا إلى موقف المعارضة الإيجابي من رئيس النظام السوري بشار الأسد.
نجاح الاستحقاق التركي هذا المساء حدث كبير، ستكون له نتائج مهمة في الداخل والخارج، وبداية عهد جديد للرئيس أردوغان الذي سيحكم من الآن بطريقة مختلفة تقوم على النظام الرئاسي.