في الخامس من يونيو/ حزيران 1849 أنهى الشعب الدنماركي نظام "الملكية المطلقة" باتجاه ملكية دستورية وفرض حكم الشعب بالوسائل الديمقراطية التي تطورت مع السنوات، بتعديلات دستورية مختلفة، فرضت المشهد الحالي، الذي تتزامن ذكراه مع ذهاب الشعب الدنماركي في التاريخ نفسه، اليوم 5 يونيو، إلى انتخابات برلمانية، تشهد تنافساً حزبياً يقوم على مساواة تامة في الحقوق بين التيارات السياسية بلا إقصاء، لا في اليمين ولا في اليسار.
وأظهرت آخر استطلاعات الرأي قبل الانتخابات، التي يتنافس فيها 13 حزباً سياسياً، أن أحزاب اليسار ستحصد نحو 88 مقعداً، وبالتالي سيكون لها دور كبير في تشكيل الحكومة المقبلة، فيما ستتراجع نسبة حزب "الشعب" الدنماركي اليميني المتشدد من نحو 21.1 في المائة إلى نحو 11 في المائة. وفي المعسكر المتشدد ذاته، ولكن الأكثر شعبوية وتشدداً، يبدو أن حزب "سترام كورس" سيحقق نتيجة تتجاوز 2 في المائة، ما يمنحه 4 مقاعد في البرلمان المقبل، بزعامة السياسي المثير للجدل راسموس بالودان، المعروف بمواقفه المتطرفة والموصوفة بأنها "سياسة عنصرية". وفي ظل هذا الواقع، تحضُر بقوة الأصوات المتطرفة في انتخابات اليوم، والتي تنتهج خطاباً عدائياً تجاه المهاجرين والمسلمين، وتجعل قضية الهجرة على سلم أولويات الحملات الانتخابية، بما يهدد الحقوق الدستورية لنحو 750 ألف مواطن من أصول إثنية غير أوروبية. ولكن بعد 170 عاماً على الدستور الذي فرض حكم الشعب، يبدو مستحيلاً أن يستطيع حزب أو حزبان أو ثلاثة، مهما اتفقت في خطابها المتعصب، أن تفرض تراجعاً دستورياً عن الحقوق التي أسس لها الشعب الدنماركي طيلة تاريخه منذ القرن التاسع عشر، وقبله في الحركات التي سعت لإلغاء الإقطاعية والفروق الطبقية.
مسار من النضال
والديمقراطية الدنماركية، كغيرها من الديمقراطيات في اسكندينافيا ودول الشمال، لم تصل إلى ما هي عليه من دون المرور خلال العقود التالية للعام 1849 بمراجعات ومطالب بالمزيد من الحريات والحقوق. فالطريق نحو حكم الشعب في القرن التاسع عشر جاء على خلفية صراع طويل استلهم من الثورة الفرنسية (1789) الكثير من مطالب المساواة والعدالة، بالإضافة إلى نشوء تيار عريض سعى لتغيير ما كان يسمى "القانون الملكي" بمبادئ دستورية ستُعرف لاحقاً بـ"أُسس دستور يونيو"، والتي أجبرت الملك كريستيان السابع على التوقيع على الدستور الأول للبلد، والذي أنهى من خلاله الملكية المطلقة بتوافق جمعية تأسيسية على بنوده.
وبعد الحرب الدنماركية - الألمانية، المعروفة بحرب شلسفيغ الثانية، والتي خسرت فيها الدنمارك في العام 1864 المزيد من الأراضي لجارتها الجنوبية (بروسيا) ألمانيا، وبالأخص هولشتاين وليونبرغ، تسارعت خطى تعزيز الديمقراطية وإشراك المزيد من فئات الشعب في الانتخابات. واستلهم دستور 1849 من دساتير أخرى عززتها الثورة الفرنسية، ومنها الدستوران البلجيكي والنرويجي. وركز واضعو بنود دستور الدنمارك في ذلك الوقت على مبادئ فصل السلطات الثلاث، التنفيذية والتشريعية والقضائية. وركّز الدستور الأول على أهم النقاط التي توافقت عليها تيارات المجتمع والأحزاب والعائلة الحاكمة، وهي أن برلمان المملكة يجب أن يضم مجلسين، وأن الحقوق المدنية يجب أن تشمل بشكل أساسي حقوق التعبير وتكوين (تأسيس الجمعيات والأحزاب) وحقوق التجمّع والطباعة، وأن حقوق الملكية الفردية مُقدسة لا يجوز انتهاكها. وعلى الرغم من ذلك لم يمنح الدستور في مبادئه الأولية حق التصويت لكل الشعب، بل جعله مقصوراً على فئات محددة من المتعلمين والأعيان. وأكد ذلك الدستور على أن الكنيسة الإنجيلية اللوثرية هي الكنيسة الشعبية الرسمية للبلد.
تطور الحقوق
واشترط أول دستور دنماركي على الراغبين في المشاركة بالتصويت أن يكونوا من الرجال فقط، وفوق 30 عاماً من العمر، وأن يكونوا معيلين لأنفسهم (أي لديهم أعمالهم الخاصة) وغير محكومين سابقاً. ولم يشمل ذلك سوى 15 في المائة من شعب المملكة في ذلك الوقت. والبقية الباقية من الشعب، بمن فيهم النساء والفقراء ومرتكبو أية جناية مهما كانت بسيطة، والعاملون لدى الإقطاعيين، وطبقة العمال و"الخدم" في الريف أو المدن، لم يسمح لهم بالمشاركة. كما جرى التركيز على أن "الغرباء"، وإن كانوا من طبقة الأثرياء، لا يحق لهم أيضاً التصويت، وذلك لطبيعة الخلاف الذي كان قائماً مع ألمانيا في الجنوب. لكن، في العام 1854، تحسن الوضع قليلاً في مسألة الحقوق الطبقية، بقوانين تخص علاقة مُلاك الأراضي بالفلاحين، عبر إدخال تحسينات عديدة على أوضاع الأخيرين (الذين شكّلوا أغلبية مجتمع البلد آنذاك)، وخصوصاً منع العقاب الجسدي الذي كان سائداً ضد الفلاحين، وجعلهم مثار تنافس بين المكونات السياسية المحافظة، وبشكل خاص حزبي "هويرا" (المحافظين) و"فينسترا" (الليبرالي الحاكم اليوم في البلد).
وفقط في العام 1915 حصلت المرأة والفقراء، أو الطبقة المعدومة العاملة في أراضي الملاك، على حق المشاركة في الانتخابات. ولم تأتِ تلك الحقوق من دون كفاح طويل ومستمر لجعل السيدات جزءاً من العملية السياسية خلال فترة تلت تبنّي الدستور الأول، وبالأخص في 1886، فترة حكم فريدريك التاسع، باقتراح تقدّم به السياسي الليبرالي (من حزب فينسترا) فريدريك باير (توفي في 1922)، بجعل المرأة مشاركة في الانتخابات البلدية أولاً. ولم يمض وقت طويل حتى أصبح الحزب "الاجتماعي الديمقراطي" في مقدمة المدافعين من خلال 3 مقترحات تشريعية لإدخال تعديلات دستورية في البرلمان، قوبلت بمعارضة "هويرا" اليميني المحافظ.
وفي العام 1908 جرى الدفع بقانون "المساواة" على مستوى البرلمان بين الذكور والإناث. ومنذ تاريخه نظّمت النساء أنفسهن في جمعيات، كافحت سياسياً ومجتمعياً للوصول إلى تعديل دستوري في 5 يونيو/ حزيران 1915، يمنح النساء حق الترشح والتصويت إلى البرلمان. وشهدت انتخابات 1924 انتخاب أول 4 نساء إلى البرلمان و5 في الغرفة الثانية منه. وكانت على رأسهن في صفوف "الاجتماعي الديمقراطي" السياسية الدنماركية التي عُرفت في الحركة النسوية العالمية التي حددت يوم 8 مارس/ آذار يوماً عالمياً للمرأة، نينا بانغ (1866 - 1928)، والتي أصبحت أول سيدة تتبوأ منصباً وزارياً في البلد وحول العالم، وفقاً لمؤرخي الدنمارك.
وبعيد انتهاء الحرب العالمية الثانية (1945) ونهاية الاحتلال النازي للبلاد، انطلق نقاش دنماركي، شمل كل المطبوعات والتجمعات التي كانت تتصارع حول "يمين" و"يسار" السياسة في البلد، عما هو الأفضل كبدائل لهزيمة النازية والفاشية. بشكل عام أعاد الدنماركيون التأكيد أن النظام الديمقراطي هو الأفضل لبلدهم ومستقبله، وتوافقت على ذلك مختلف الاتجاهات السياسية، بما فيها المحافظة والليبرالية والشيوعية. القضية الأساسية التي اختلف عليها هؤلاء كانت في تعريف أسس الديمقراطية، بعد فترة احتلال نازي وتراجع الحقوق التي كانت سائدة قبيل 1940. وساهمت النخب الدنماركية، وتحديداً كتابات اللاهوتي هال كوخ (1904-1963) من خلال كتابه "ما هي الديمقراطية؟"، مع أستاذ القانون ألف روس (توفي في 1979)، حول "لماذا الديمقراطية؟"، في إثراء النقاش وجعله يمضي أكثر في الشارع بسجالات لم تستثنِ غنياً ولا فقيراً ولا يمينياً ولا يسارياً، وخصوصاً لما سيعرف لاحقاً حول أهمية "دولة القانون والحقوق وضمانها لمواطني المملكة"، بحسب ما نظر له روس. وهو أمر اعتبره الشارع مهماً لمستقبل الرفاهية والتطور في البلد، وبما يعود بفائدة على جميع المواطنين.
وخلال 170 عاماً من دستور الدنمارك، الذي نقلها من الملكية المطلقة إلى ما هي عليه اليوم لجهة الحقوق والمساواة، لم تتعلق القضية بمسألة حق المشاركة في الانتخابات فحسب. فالتعديلات، أو المراجعات الأربع لدستور البلد، منذ تبنيه الأول في 1849، شملت إلى جانب سحب صلاحيات الأسرة الحاكمة في إصدار القوانين، وتحويلها إلى رمز للبلد، وفصل الكنيسة عن الدولة، تركيزها على بنية المجتمع ومؤسساته وحقوق الأفراد والجماعات المقيمين على أرض المملكة، بما يشمل جزيرة غرينلاند وجزر ألفارو، وقبلهما أيسلندا وجزر الهند الغربية المستعمرة في الكاريبي. ففي تعديل 1920، وإثر استفتاء شعبي لسكان إحدى مقاطعات شلسفيغ في جنوب البلاد للرجوع إلى المملكة الدنماركية، اشترط الألمان إجراء تعديل يمنع الملك من إعلان الحرب أو عقد اتفاقيات سلام من دون موافقة البرلمان. وعلى الرغم من أن تعديل 1915 جاء ليمنح المرأة وبقية أفراد المجتمع حق المشاركة على قدم المساواة في الديمقراطية، جاء تعديل 1953 ليؤكد حق المرأة في حكم البلد، ليفسح المجال أمام الملكة الحالية، مارغريت الثانية، لترث العرش عن أبيها فريدريك الذي توفي في 1972. لكن تعديل ذلك العام شهد أيضاً خفض سن الترشح والتصويت من 25 سنة إلى 18 سنة وتحويل البرلمان من غرفتين إلى غرفة واحدة تعرف اليوم بـ"مجلس الشعب" والذي يضم 179 نائباً. ولإعادة النظر ببنود دستور الدنمارك، وهي المطالب التي يذهب إليها اليسار ويسار الوسط منذ 2009، يحتاج أي تعديل إلى موافقة 40 في المائة على الأقل ممن يحق لهم التصويت. ولا يجري التعديل إلا بعد انتخابات برلمانية جديدة، وهو ما يستدعي أيضاً موافقة الأغلبية فيه على التعديلات تلك. ويرى أستاذ القانون العام، قاضي المحكمة العليا، بيتر كريستنسن، أن متطلبات تعديل الدستور "تجعل إدخال تعديلات عليه أمراً بالغ الصعوبة".