وقد صعّب وجود عناصر تنظيم الدولة داخل الأحياء على القوات العراقية تحرير الموصل، لا سيما الجانب الأيمن منها الذي يتسم بوجود المدينة القديمة الضيقة الأحياء، الأمر الذي جعل من كلفة تحرير المدينة باهظة. وتظهر مقاطع فيديو، بثها جنود من أجهزتهم وهم يجوبون أحياء تحررت لاحقاً، كيف أن المؤسسات الحكومية ومنازل المواطنين وسياراتهم والأسواق والمحال التجارية كلها مدمرة داخل المدينة.
ووفقاً لعنصر في الشرطة الاتحادية يدعى حسن الربيعي، تحدث مع "العربي الجديد"، فإن معركة الموصل تختلف جذرياً عن المعارك التي سبقتها، واصفاً المعركة بـ"القاسية" و"الموجعة"، والسبب مرده إلى "اختلاف المكان وقوة داعش المركزة في الموصل بعدد مقاتلين أكبر".
يقول الربيعي، وهو يتحدث لـ"العربي الجديد"، "لأول مرة أخوض معركة بهذا التكتيك، كانت حرب شوارع وأزقة، كان ضرورياً مساندة القوات الجوية وتدميرها مواقع داعش لنتقدم في داخل الأحياء، وهذا ما نتج عنه تدمير المدينة القديمة بالكامل".
ويؤكد الربيعي أن "ما جرى تصويره عبر القنوات التلفزيونية للمدينة وقد دمرت لم يشرح الكثير، إذ إن الموصل صورتها أصبحت بشعة جداً. هي أشبه بمدينة ضربها زلزال قوي فدمرت بالكامل وتعرضت للحرق". ويبين أن شوارع كثيرة لا يمكن دخولها كونها ضيقة وقد تهدمت البيوت فيها فغطت بركامها تلك الشوارع.
وشنت القوات العراقية معركة تحرير الموصل في 17 أكتوبر/ تشرين الأول 2016، بدأت بالجانب الأيسر من المدينة التي يقسمها نهر دجلة إلى جزأين أيمن وأيسر، ونجحت القوات العراقية في السيطرة كاملاً على الجانب الأيسر في 24 يناير/ كانون الثاني الماضي، فيما انطلقت معركة تحرير الجانب الأيمن من المدينة في 19 فبراير/ شباط الماضي، وأعلن الأحد 9 يوليو/ تموز عن تحريره.
يؤكد السكان الذين نجوا من الموت أن جثثاً كثيرة لرجال ونساء وأطفال مدفونة تحت ركام المنازل التي تهدمت عليهم من جراء القصف، وكثيرون تحدثوا عن دفن ذويهم، بينهم أطفال، داخل حدائق منازلهم بسبب اشتداد المعارك.
تقول فوزية ناصر إنها ومجموعة من جيرانها يبلغ عددهم 35 شخصاً يسكنون بيوتاً متجاورة لم يخرجوا منها منذ أسبوع كامل. وتوضح ناصر، وهي تتحدث لـ"العربي الجديد"، أنهم كانوا يسمعون نداءات مقاتلي "داعش" وهم يتنقلون بين الأزقة وفوق أسطح المنازل، وتشير إلى أنهم كانوا يشعرون بالخوف كلما كان عناصر "داعش" قريبين منهم "فهذا يعني أنهم سيتعرضون لقصف في أية لحظة".
وتتابع "لقد حصل هذا بالفعل، وجرى قصف زقاقنا الذي يحتوي على حوالي 50 بيتاً. ثلاثة صواريخ كانت كافية لهدم غالبية البيوت؛ فهي متلاصقة وقديمة، قتل بسبب القصف ستة أشخاص بينهم طفلي وعمره أربع سنوات، فأحد الصواريخ ضرب بيتاً مجاوراً لنا فهدمه بالكامل وتهاوى نصف بيتنا فسقط جدار على طفلي". وتشير إلى أنها وزوجها دفنا طفلهما في فِناء صغير بدارهما، واستدركت "لكن جيراننا تركوا قتلاهم بدون دفن، بعضهم صار تحت الأنقاض، وبعض آخر لم يتسن الوقت لدفنهم بعد أن دخلت القوات العراقية وأمرتنا بالخروج".
وفي ظل هذه الأوضاع تبدو فرق الإنقاذ التي تباشر مهامها، كلما انتهت القوات الأمنية من تحرير منطقة ما، أمام مهمة صعبة، فيما تنشط المنظمات المدينة في توثيق الأضرار التي تعرضت لها الأحياء السكنية.
ويضيف النعيمي، الذي سبق أن شارك في توثيق أضرار الجانب الأيسر من الموصل بعد تحريره، أن "أغلب أحياء الجانب الأيسر لم تتطلب أكثر من إعادة الخدمات البسيطة لها، وهو ما سارع في عودة أهلها إليها، لكن الجانب الأيمن مختلف كثيراً".
ويوضح أن "الجانب الأيمن يحتوي على المدينة القديمة وهي أحياء مضى على بنائها أكثر من مائة عام ومتلاصقة وأغلب بيوتها متهالكة، وتحت ركامها بفعل القصف هناك الكثير من الجثث". ويلفت إلى أن "أغلب الجثث الموجودة تحت الأنقاض هي للعوائل التي حاصرها التنظيم ومنعها من الخروج واتخذها دروعاً بشرية، لكن أيضاً هناك جثث لمقاتلي داعش".
الموصل، التي تتمتع بالكثير من المعالم البارزة أهمها الأثرية والتاريخية والدينية، فقدت اليوم هذه الميزة بعد أن تسبب القتال وتنظيم "داعش" بهدمها، ومنها مساجد وكنائس تاريخية وأضرحة لأنبياء، كان آخرها جامع النوري التاريخي ومنارة الحدباء الشهيرة، فضلاً عن المتاحف والآثار المهمة التي حطمها "داعش" وتعود لآلاف السنين.
الخبير العسكري، العقيد المتقاعد قاسم الشمري، يقول إن استعجال تحقيق النصر أدى إلى ارتكاب مجازر بحق المدنيين في الموصل، وتدمير المدينة، وهو يرى في حديثه مع "العربي الجديد" أن الأولى كان فرض حصار طويل على "داعش" وتفعيل دور القناصة والتقدم ببطء.
ويوضح الشمري، أنه نظراً لكون المدينة في الجانب الأيمن قديمة البناء وبيوتها في الغالب غير متينة وذات كثافة سكانية كبيرة، فمن الخطأ قصفها عبر الطائرات، مستطرداً "لكن للأسف كان الاعتماد بشكل أكبر في المعركة على القصف الجوي".
ويلفت الخبير العسكري إلى أن "طائرات التحالف كانت تقصف بشكل مستمر بالصواريخ الارتجاجية، وهذا النوع من الصواريخ يعمل كالزلزال، يحدث ارتجاجات في الأرض، ما يتسبب في تفجير الألغام التي زرعها داعش في البيوت والشوارع، وعن طريق ذلك يجري تأمين المنطقة ما يسمح بتقدم القوات الأمنية". وأكد أن "لهذا النوع من الصواريخ مساوئ بالطبع، لقد تسببت بقتل الناس المدنيين الأبرياء، بسقوط منازلهم فوق رؤوسهم، وهذا ما تبين من خلال مقاطع الفيديو التي تنقلها وسائل الإعلام للمناطق المحررة".
ويعرب الشمري عن اعتقاده بأن سقوط منارة الحدباء كان بسبب الصواريخ الارتجاجية. ويقول الشمري: "أتوقع أن المنارة كانت مفخخة من قبل داعش، الذي عُرف عنه تفخيخه المعالم المهمة، لكن بفعل الصواريخ الارتجاجية انفجرت القنابل المحيطة بالمنارة وتهدمت بالكامل".
وكانت القوات العراقية اتهمت في 21 يونيو/ حزيران الماضي، تنظيم "داعش" بتفجير منارة الحدباء وجامع النوري الكبير الذي شهد الظهور العلني الوحيد لزعيم التنظيم أبو بكر البغدادي في المدينة، والمنارة والمسجد يعود تاريخ بنائهما إلى نحو تسعة قرون، ويعتبران من أبرز الآثار في العراق.
سكان الموصل في غربي المدينة لن يجدوا بيوتهم حين ينتهي كل شيء ويُسمح لهم بالعودة، فلا بيوت يسكنونها ولا مأوى لهم سوى أطلال عليهم إعادة إحيائها.
يقول فؤاد حياوي، وهو فنان تشكيلي، إن "الموصل كانت لوحة جميلة نادرة. لقد تمزقت إلى قطع صغيرة وفقدت قيمتها". ويتساءل "لو مزق أحدهم لوحة موناليزا الشهيرة إلى خمسين قطعة، هل ستعود إلى حالها الطبيعي وقيمتها إن جرى تجميع القطع الممزقة ولصقها؟ بالتأكيد لا". يقول حياوي إنه لن يعود إلى الموصل، لأنه لن يجد الموصل التي يعرفها، بحسب قوله.
أما نادرة فواز، التي هربت وعائلتها من تنظيم الدولة منذ 2014، وتعيش في إقليم كردستان العراق، تقول في حديثها لـ"العربي الجديد": "لم تعد لنا مدينة، لم يعد لنا بيت، لم تعد هناك موصل؛ كل شيء في مدينتي القديمة سويّ بالأرض. إلى ماذا أرجع؟".