لا تزال مدن وقرى ريف إدلب في سورية تضجّ بالحياة على الرغم من تداعيات الحرب ومآسيها، فلا شيء يذكر بها إلا الحواجز العسكريّة لفصائل المعارضة والسماء الغادرة.
في جزئيات الصورة أناس هبوا باكراً طلباً للرزق لا يعبأون بالمخاوف الأمنيّة أو على الأقل سلموا أمرهم لقدرهم. يعجّ سوق سرمدا بالمارة وتملأ صيحات البائعين المكان فتوحي بوفرة سلعية مصدرها تركيا.
في الطريق إلى بنش، انتشر بائعو المازوت المكرر على جوانبه ينتظرون السائقين أو المضطرين، فالأسعار مرتفعة جداً، ولا يقوى معظم الناس على شرائها. لم تعد مادة المازوت أساسيّة للتدفئة، فالتحطيب جار على قدم وساق، وتكاد ترى أمام كل منزل جبلا صغيرا من الحطب أعدّ لاستقبال برد قارس متوقع.
أما سراقب، فهي المدينة الاستراتيجيّة بالنسبة للجميع. وعدا عن كونها واقعة على الطريق الدوليّة دمشق – حلب، فهي تمثل عقدة مواصلات بين جهات وجبهات الريف الإدلبيّ. ولأهميتها، يحرص النظام على زيارتها بشكل شبه يومي، وترسل طائراته رسائل الموت عبر البراميل المتفجرة.
في سراقب وحدها يُرى الدمار في عموم الصورة، إذ لا تخلو حارة من منزل مدمر أو حفرة تسبب بها سقوط صاروخ.
في غرفة صغيرة داخل أحد مقرات الجيش الحر، يستذكر الناشط الإعلامي، محمد إسماعيل، وإلى جواره بندقية وصحون سجائر متناثرة، بعجالة المراحل التي مرّت بها الثورة في المدينة.
يتحدث عن التظاهرات السلميّة وجهود الإعداد والتحضير، رسومات الجدران الملونة التي زينت المدينة وبشّرت آنذاك بسورية تعدديّة منفتحة. كما يتوقف عند تشكيل المجلس المحليّ الذي ضم مشارب سياسيّة مختلفة، الكفاح المسلح الأهليّ وصولاً إلى انتشار الفصائل الإسلاميّة، وتراجع النشاط المدنيّ. لا ينسى اسماعيل الإشارة إلى جهود الأهالي الاستثنائية لتنظيم حياتهم وتوفير مستلزماتهم الضرورية، والتي كانت ولا تزال أهم ركيزة في صمود المدينة على الرغم من الاستهداف اليوميّ.
يشتكي اسماعيل من سلوكيات الحركات الجهاديّة، وخصوصاً جبهة النصرة وجند الأقصى، ومحاولاتهم المتكررة إحباط واحتواء وإفشال أي جهد أهلي مدنيّ. يتحسر على خروج الناشطين المدنيين وتركهم المدينة. وفي الوقت نفسه، لا يبرر لهم مخاوفهم من الجهاديين، فالثورة في قناعته تحتاج إلى تضحية وعناد. كما أن الخروج من سوريّة هو محرقة لها ولهم أيضاً. ما فاض به اسماعيل يجده زائر المدينة ماثلاً أمامه، فالحركة التجارية النشطة، وعملية تنظيف الشوراع، وإعادة بناء المدمر، المراكز الصحية والمدارس، جميعها تؤشر إلى طاقات هائلة يكتنزها المجتمع تعينه على استمرارية الحياة. لكن الجدران الناطقة للمكتب الدعوي لجبهة النصرة تدل على واقع أضحت فيه الحركات الجهادية الطرف الأقوى والمهيمن.
وبعدما عرفت سراقب خلال الثورة برسومات حيطانها وألوانها الجميلة، وذكاء شعاراتها الموجهة، تحولت اليوم إلى مدينة بلا ألوان، وحده السواد يطغى من دون أن يليق بها.
في جرجناز، تماهى النشاط الثوري المدني مع البنى التقليدية والتراتبية العائليّة فأنتج نموذجا أكثر رتابة وأقل فوضى. شكلياً، لا وجود لمجلس محلي فاعل، فعائلات البلدة هي من تدير النشاط المدني عبر جمعيات تضطلع بنشاطات تتجاوز الإطار المناطقي للبلدة والقرى المحيطة لتشمل عموم منطقة معرة النعمان. ومن أهم المشاريع مركز أم القرى للتدريب والتأهيل ويشرف على تعليم 250 طالباً، فضلاً عن الدورات التخصصية للناشطين في المجالات المختلفة. كما يبرز مخيم النور الذي بنته جمعية "قطر الخيرية" ويتسع لأكثر من 200 عائلة، ويشرف الأهالي على إدارته وتأمين مستلزماته الأساسية من ماء وكهرباء ومازوت. وهناك أيضاً دار الاستشفاء وغسيل الكلى ويخدم مجاناً نحو 800 مراجع شهرياً، إضافة إلى جلسات غسيل الكلى. كذلك يوجد فرن المحبة وينتج 1500 ربطة خبز يوميا، ودار الأيتام.
عدا عن الجمعيات، سد النشاط المجتمعي جزئياً ثغرات غياب الدولة. فعلى سبيل المثال عوّض الأهالي غياب شبكات الاتصالات الخليوية الحكوميّة بأجهزة إنترنت لاسلكية مستوردة، واخترعوا نواشر (أجهزة توزيع) بدائية تساعد في تغطية حي بأكمله. أما الاتصالات السلكيّة، فقد أعاد المهندسون تأهيل المقاسم بشكل أتاح استخدام الهاتف الأرضي ضمن البلدة والقرى المحيطة بها مجاناً. كما استوردت المولدات الكهربائيّة، وربطت مع بيوت القرية لتعويض 22 ساعة من الانقطاع اليوميّ. واستبدلت المصابيح الكهربائيّة بأجهزة الليزر الكهربائية والتي تشحن على بطاريات السيارات لإنارة الغرف، وكذلك أصلحت شبكات المياه وشبكة الصرف الصحيّ.
يخشى أهالي جرجناز، وكثير من أهالي قرى معرة النعمان من التطورات الأخيرة في ريف إدلب لجهة سيطرة جبهة النصرة وجند الأقصى ونشرهما حواجز أمنية في بلدات الريف الإدلبي بعد تصفية نفوذ قائد "جبهة ثوار سورية"، جمال معروف، في جبل الزاوية وفصائل أخرى من الجيش الحر. يفضّل الأهالي، مدنيين ومقاتلين، الحياد في النزاع الدائر، ويبررون ذلك بمصطلحات دينية عن اعتزال الفتنة وحقن دماء المسلمين، فضلاً عن مبررات ثورية لجهة عدم انحراف وجهة البندقيّة، ولا سيما أنها تاهت كثيراً في الأشهر الاخيرة.
وعلى الرغم من أن النصرة تتجنب ما أمكن الاحتكاك بالمدنيين، ويقتصر وجودها على الحواجز الأمنية والتفتيش، فإن الأهالي يخشون من تغير سلوكي في النصرة لامسوه في الفترة الأخيرة لجهة زيادة حدة نبرة خطابها، واستعمال مفردات الردة والتكفير، وإنشاء محاكمها الخاصة ومداهمة منازل المطلوبين لديها من منتسبي جبهة ثوار سورية والجيش الحر وتفتيشها. يضاف إلى ذلك تحالفها مع جند الأقصى، وهي جماعة جهادية تضم المقاتلين الذين انشقوا عن داعش إبان المواجهة المسلحة بداية العام الحالي.
ويترافق ذلك أيضاً مع طغيان العنصر الأجنبي في المراكز القياديّة. وهو ما يتهكم عليه حسان الأحمد، أحد مقاتلي فيلق الشام، والذي قال باستغراب " كيف أقنع أبا فهر التونسي، وأبا دجانة الجزائري، وغيرهما، بأننا مسلمون ولسنا كفاراً، وبأننا حملنا السلاح لدفع الصائل (الظلم) والتخلص من الطاغية وبناء دولة حرة"؟
لم تعد مظاهر الغلو والتشدد خافيّة، بل تتوسع تدريجياً لتصبح سلوكاً يومياً واعتيادياً. يمكن تلمس ذلك بسهولة، فعلى أحد جدران مقارّها كتبت النصرة "لو كانت الوسطيّة منهجاً، لكان دين أبي طالب هو الحق، فهو الوسط بين دين محمد وقريش". كما سيرت الجبهة، وبإشراف الداعية السعودي، عبد الله المحيسني، 10 سيارات دعوية في ريف إدلب لـ"تعليم" المرأة السوريّة "اللبس الشرعي وارتداء العباءة وتجنب الضيق ومخالطة الرجال .. الخ. اللافت في الأمر، أن صورة لمقاتلين في الجيش الحر طبعت على جوانب هذه السيارات وكتب تحتها "هؤلاء يقاتلون في سبيل الطاغوت". تشرح العبارات والصور السابقة واقع ثورة ونضال يخنقان تدريجياً من قبل الحركات الجهادية.