وعلى الرغم من البعد الاقتصادي الواضح لاحتجاجات الخبز والوقود، والتي شهدت أمس سقوط قتلى، فضلاً عن انضمام العاصمة الخرطوم إلى الحراك، برز إصرار الحكومة على إعطائها طابعاً سياسياً باستحضار الحديث عن محاولات "لإثارة الفتنة والقلاقل وتقويض أمن واستقرار البلاد وتخريب مقدرات الشعب وممتلكاته". وبينما فرضت حالة طوارئ جزئية، لم تتردد في محاولة تفريق الاحتجاجات، ما أدى إلى سقوط قتيلين أمس.
كذلك كان لافتاً أن الاحتجاجات، والتي يظهر خلال الساعات الثماني والأربعين الماضية، أنها آخذة بالتمدد لجهة انضمام مناطق جديدة إليها، في حين أن أعداد المشاركين فيها تقتصر على المئات حتى الآن، انطلقت من مناطق خارج العاصمة الخرطوم، بما في ذلك مدينة عطبرة التي تعرف تاريخياً بقيادة التظاهرات والإضرابات العمالية، وفي مدينة بورتسودان، حيث الميناء الرئيس للسودان، قبل أن تتجدد أمس الخميس في الخرطوم، والتي عاد إليها هتاف "الشعب يريد إسقاط النظام".
وبالنسبة إلى المتظاهر عثمان، كما غيره من السودانيين الذين تظاهروا خارج العاصمة، فإن أكثر ما أغضبه هو أن الحكومة، التي بنظره لا تمتلك الحلول لمشاكل السودان، تركز على توفير السلع في العاصمة الخرطوم وتتجاهل بقية المدن خوفاً من الثورة في العاصمة، لدرجة أن سعر الخبز في مدينة عطبرة أصبح بواقع 3 جنيهات (الدولار يساوي 50 جنيهاً) للقطعة الواحدة، وهو أمر لا تستطيع الأسر توفيره. ويؤكد عثمان أنهم سيواصلون الاحتجاجات مهما حدث.
وكانت مدينة عطبرة التي تُعرف تاريخياً بقيادة التظاهرات والإضرابات العمالية، قد شهدت أكبر الاحتجاجات أول من أمس، وهتف المتظاهرون مطالبين بسقوط الحكومة، وأضرم بعضهم النار في مقر تابع لحزب المؤتمر الوطني الحاكم في السودان، طبقاً لمسؤولين حكوميين. كما أغلق المتظاهرون لفترة محدودة الطريق الرابط بين المدينة والخرطوم العاصمة. وفي محاولة لاحتواء الوضع، سارعت حكومة ولاية نهر النيل لفرض حالة الطوارئ في عطبرة وحظرت التجوال مساء وعلقت الدراسة بكافة المدارس الحكومية والخاصة للمرحلتين الأساسية والثانوية، اعتباراً من أمس الخميس إلى أجل غير مسمى، لكن لم يحل ذلك دون استمرار الاحتجاجات فيها أمس، بينما كان والي ولاية نهر النيل يعلن عودة الهدوء إلى المدينة بعد وصول كميات من الدقيق وزّعت على مخابزها، على أن يباع سعر الخبز بما كان عليه قبل اندلاع التظاهرات بواقع جنيه واحد لقطعة الخبز.
وبالتزامن مع خروج التظاهرات في عطبرة، يوم الأربعاء، شهدت مدينة بورتسودان، حيث الميناء الرئيس للسودان، احتجاجات مماثلة قادها في البداية طلاب المدارس الثانوية محتجين على عدم توفر الخبز وارتفاع سعره، لينضم إليهم مواطنون أحرقوا النار في إطارات السيارات وأغلقوا بعض الطرق، قبل أن تتدخل قوات الشرطة وتفرقهم بواسطة الغاز المسيل للدموع.
وإذا كانت عطبرة شمالاً وبورتسودان شرقاً، فقد بدأ المحتجون تحركهم في مدينتي النهود والفاشر، غرب البلاد للأسباب نفسها. وفي مساء أول من أمس، انضمت مدينة الدامر، شمال السودان إلى قائمة المدن المحتجة.
أما أمس الخميس، فقد توسعت دائرة التظاهرات لتشمل، بحسب شهود عيان تحدثوا مع "العربي الجديد"، مدينة القضارف (شرق السودان) التي شهدت سقوط أول قتيلين. ووفقاً لما قاله المواطن فيصل عبد اللطيف، وهو أحد سكان المدينة، لـ"العربي الجديد" فإن ابن خاله، الطالب بالمرحلة الثانوية، مؤيد أحمد محمود عبد القادر، قتل خلال الاحتجاجات التي شهدتها المدينة أمس رافضاً الإدلاء بمزيد من التفاصيل. كما أكد مصدر طبي بمستشفى القضارف، في حديث مع "العربي الجديد"، مقتل أحد عمال مستشفى المدينة برصاص طائش أثناء الاحتجاجات التي شهدتها المدينة أمس.
وأضرم محتجون النار في مقر هيئة المياه وحاولوا اقتحام مقر بنك السودان، منددين بالأوضاع المعيشية وغلاء الأسعار. ووفقاً لأحد شهود العيان، فإن ألسنة اللهب تصاعدت أمس في عدد من الأمكنة وسُمع دوي لإطلاق نار، لكن لم يتأكد من إصابة أحد، وذلك في وقت انتشرت رائحة الغاز المسيل للدموع في كل أنحاء السوق الرئيسي في المدينة. كما شملت التظاهرات مدينة سنار جنوب شرقي الخرطوم.
كذلك، سجلت احتجاجات أمس في مدينة دنقلا، عاصمة الولاية الشمالية، إذ خرج مئات الأشخاص في مسيرة تردد نفس الهتافات المنددة بالأوضاع. وأغلقت المحلات التجارية أبوابها في السوق الرئيسي للمدينة. كما حاول المتظاهرون إحراق مقر حزب المؤتمر الوطني الحاكم في المدينة. واستخدمت الشرطة الغاز المسيل للدموع لتفريقهم، وتكرر المشهد أيضاً في مدينة بربر.
وبعد الاحتجاجات الخجولة التي شهدتها الخرطوم العاصمة في الأيام الماضية ولم تصمد طويلاً، تجددت أمس التظاهرات في العاصمة. وخرج طلاب جامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا، إضافة إلى خروج تظاهرة في حى الديم جنوب الخرطوم. وفي السياق، ذكرت وكالة رويترز أن نحو 150 محتجاً سدوا شارعاً رئيسياً في الخرطوم ورددوا هتاف "الشعب يريد إسقاط النظام". وكان طلاب جامعة النيلين، وطلاب كلية الزراعة بشمبات نفذوا تحركات احتجاجية في الأيام الماضية. كما خرجت تظاهرة ثالثة في منطقة الصالحة غرب الخرطوم.
وتبدو الأسباب الاقتصادية حاضرة بقوة كدافع للاحتجاجات؛ ففي غضون الأسبوعين الماضيين، ارتفعت أسعار السلع الضرورية مثل اللحوم والخضروات والألبان الطبيعية والمجففة. كما تفاقمت أزمة الخبز لدرجة بقاء المواطنين ساعات طويلة أمام المخابز التي لا تسمح ببيع أكثر من 30 قطعة لأي من المنتظرين، بينما برزت صفوف مماثلة خاصة بالوقود.
وبدأ مسؤولو الحكومة، خلال اليومين الماضيين، وعلى رأسهم الرئيس عمر البشير، يمهدون لرفع الدعم الحكومي عن بعض السلع مثل المشتقات البترولية، لكن بعد إيداع مشروع الموازنة للعام المقبل خلت تفاصيلها من أي رفع للدعم، غير أن رئيس الوزراء، معتز موسى، أكد في مؤتمر صحافي أول من أمس الأربعاء، عدم وجود أي اتجاه لرفع الدعم عن الخبز والوقود في الوقت الراهن، وأشار إلى أن تركيز الحكومة المستقبلي ينصب على توجيه الدعم للمحتاجين، مع العمل على الحد من تهريب الوقود والدقيق.
ولم يدلِ موسى، الذي كان يتحدث في مؤتمره الصحافي، بموقف واضح حول الاحتجاجات، بعد سؤاله عنها، لكنه أشار إلى أن بعض المخابز تطرح للمواطنين خبزاً غير مدعوم وبالسعر الذي تحدده، ما يثير غضب المواطنين.
وتعيد الاحتجاجات الأخيرة للأذهان قصة الاحتجاجات الشعبية في العام 2013 في الخرطوم ومدن سودانية أخرى بسبب رفع الدعم عن المحروقات، والتي أدت إلى مقتل العشرات من المحتجين برصاص الشرطة وغيرها من السلطات الأمنية، بحسب ما تقول المعارضة وهو اتهام تنفيه الحكومة.
في موازاة ذلك، يصرّ حزب المؤتمر الوطني الحاكم على ربط الاحتجاجات الحالية بأبعاد سياسية، من خلال اتهام قوى سياسية بإثارة الفتنة والقلاقل وتقويض أمن واستقرار البلاد وتخريب مقدرات الشعب وممتلكاته.
ونسبت وكالة الأنباء الحكومية إلى المتحدث باسم الحزب، إبراهيم الصديق، قوله إن حق التعبير عن المواقف والآراء مكفول بنص الدستور ولكن التخريب غير مقبول ومرفوض، مشيراً إلى أن ما جرى من بعض المتظاهرين لا يتسق مع مفهوم التظاهرات السلمية.
وحمّل الصديق المسؤولية لحزب لم يسمه، لكنه وصفه بالعجوز في إشارة إلى الحزب الشيوعي السوداني. وبالنسبة إلى الصديق، فإن هدف "هذا الحزب أن يعيش الوطن في حالة من عدم الاستقرار الأمني والسياسي والاجتماعي". وأكد الصديق أن الأزمة التي يعترف بها حزبه بدأت في الانفراج على الرغم من تمدد الاحتجاجات. كما أكد ثقته في تفهم الشعب ما يمرّ به السودان من ظروف وأزمات عابرة وعدم السماح باتخاذها ذريعة لتمرير أجندة المخربين الذين يحاولون العبث بأمن واستقرار الوطن والمواطن. كما أشاد بالأجهزة الأمنية والشرطية بسبب تعاملها بمهنية عالية وضبط نفس وهدوء، لتفويت الفرصة على الذين يسعون للخراب، بحسب قوله.
لكن المعارضة السودانية، تنفي أن تكون أجندتها التخريب أو تقويض الأمن والسلام. وتقول القيادية في الحزب الوحدوي الناصري، انتصار العقلي، إن من مهام المعارضة توعية الشعب السوداني بما يحدث من انهيار اقتصادي شامل يهدد حياة المواطن. وأشارت إلى أن الشعب السوداني سبق المعارضة نفسها، حينما خرج محتجاً ضد الجوع والفقر والمرض.
وتشير العقلي، في حديث مع "العربي الجديد"، إلى أن "جماهير الشعب أدركت في المدن المختلفة أن الوقت قد حان للتصدي لصلف السلطة وللتخريب السياسي والاقتصادي وحالة الفشل العامة وفقدان الأمن والسلام، وسيطرة القلة الطفيلية الحاكمة على مفاصل الاقتصاد باسم الدين" على حد قولها. وتشدد على أن "الضائقة المعيشية لمست كل السودانيين عدا بعض الأفراد من أصحاب المصلحة في استمرار نظام الحكم". وبالنسبة إليها، فإن الشعب سيقاوم ما سمّته "أساليب كذب النظام وسيستمر في إعلاء صوته والدخول في عصيان مدني وسياسي".
من جهته، يلفت رئيس القسم السياسي في صحيفة "السوداني"، عمرو شعبان، في حديث مع "العربي الجديد"، إلى أن الشارع السوداني لم يعد يأبه كثيراً بالتوصيف الحكومي للاحتجاجات باعتبارها عمليات مخربين تقف وراءها جهات سياسية لها أجندتها الخاصة. ويتوقع استمرار الاحتجاجات الشعبية لتشمل مدناً أخرى بما فيها الخرطوم، خصوصاً أن الاحتجاجات مرتبطة هذه المرة بمعيشة الناس ومصيرهم الحياتي، وذلك على عكس المرات السابقة التي خرجت فيها بلافتات سياسية. ويوضح شعبان أن ما أغضب جماهير المدن البعيدة هو ما رشح من معلومات عن تحويل الحكومة حصص الولايات من دقيق وخبز وغيره إلى الخرطوم، ما أشعر المواطنين بتفضيل سكان العاصمة عليهم، هذا إضافة إلى الغضب الواقع أصلاً ضد السياسات الكلية للدولة وعجزها عن توفير أبسط مقومات الحياة.
بدوره، يقول أستاذ العلوم السياسية في جامعة أم درمان الإسلامية، صلاح الدين الدومة، في حديث مع "العربي الجديد"، إن المنطق التاريخي في الثورات منذ الثورة الفرنسية أن المطالب تبدأ محدودة وبسيطة، لكن سرعان ما تتوسع لتصل إلى مرحلة المناداة والضغط في اتجاه إسقاط النظام الحاكم القائم مهما كانت قوته. لذا، لا يستبعد الدومة أن تتحول بوصلة الاحتجاجات من المطالب المعيشية إلى مطالب سياسية حقوقية، لا سيما إذا ارتكبت الحكومة أخطاء في التعامل مع التظاهرات وتحويلها إلى حمامات دم، على حد قوله.
وبرأي الدومة، فإن "ما يحدث في السودان ليس مجرد أزمة عارضة تجلت اقتصادياً إنما هو تراكم لأخطاء سنوات من التخبط السياسي والاقتصادي وحلول (رزق اليوم باليوم)، ما أنتج واقعاً مأزوماً. يحتاج السودان إلى معالجات جذرية تدركها كل النخب السياسية السودانية".
وعلى العكس من ذلك، يستبعد المحلل السياسي، محمد حامد جمعة، في حديث مع "العربي الجديد"، استمرار الحراك الجماهيري والوصول إلى إسقاط النظام، واصفاً الأمر بـ"سقف عالٍ من الأمنيات لدى المعارضة". ويشير إلى أن الاحتجاجات الحالية لا تستند إلى مطالب سياسية وحقوقية، كما تروج لذلك النخب السياسية في منابرها الخاصة، بل هي مطالب خدمية تستطيع الحكومة علاجها من خلال بعض الإجراءات على غرار ما حدث في ولاية البحر الأحمر، بالتراجع عن زيادة أسعار الخبز أو ما حدث من إرسال شحنات من الدقيق إلى مدينة عطبرة. ويرى جمعة أن الاحتجاجات التي حدثت مبررة تماماً، في ظل الأزمات الحالية سواء في الدقيق أو البترول وغيرها، مع غياب الصوت الحكومي في شرح الأزمة وتقديم حلول لها، مشيداً بتعامل الأجهزة الأمنية من شرطة وجيش وأمن مع الاحتجاجات "بقدر من المسؤولية والاحترافية إلى حد التعاطف مع المحتجين"، على حد وصفه. لكنه يلفت في الوقت نفسه إلى ما يصفه بـ"غياب الحزب الحاكم عن المسرح خصوصاً في الولايات"، بدليل أن مقارّ الحزب كانت الهدف الأول للمحتجين في كل المدن، فضلاً عن الغياب الواضح للحزب وسط الشباب لأن غالبية المحتجين من الفئة العمرية الشبابية.
كما يستنكر جمعة اتهام أحزاب سياسية معارضة وتحميلها مسؤولية ما يجري، لافتاً إلى أن الاحتجاجات بمثابة تعبير عفوي من الجماهير عن الغضب بسبب أوضاعها المعيشية، لكنه لم يستبعد أن تقوم بعض الأحزاب المعارضة في وقت لاحق بالانضمام إليها وتسخيرها خدمةً لأجندتها السياسية.