تتداخل على الساحة التونسية أخيراً قضايا متعددة لا تقل إحداها أهمية عن الأخرى، بدءاً من تأجيل الانتخابات البلدية والتعديل الوزاري، مروراً بدعوات تغيير النظام السياسي للبلاد وقانون المصالحة الإدارية، ووصولاً إلى الوضع الاقتصادي الصعب الذي يظل هاجس التونسيين الأكبر. غير أنه من بين كل هذه الملفات الهامة، تجندت المعارضة التونسية ومناصروها بشكل لافت لمعارضة قانون المصالحة، والبحث عن إسقاطه بكل الطرق، عبر الطعن في دستوريته، ومحاولة تجنيد الشارع في أكثر من مدينة للتعبير عن رفضها للقانون على الرغم من أنه تمت المصادقة عليه داخل البرلمان بأغلبية 117 صوتاً.
المعارضة التونسية، المنقسمة حول أغلب الملفات، حاولت جمع قواها لإسقاط القانون، ولم تفلح في ذلك في البرلمان خلال جلسة صاخبة جداً تميّزت بحالة من الفوضى والتوتر الشديد، فقررت عرض الأمر على هيئة دستورية القوانين. لكنها في انتظار ذلك عادت إلى نفس تهديداتها عند طرح المشروع منذ أكثر من سنة، ملوّحة بالخروج إلى الشارع.
وتتطلب عريضة الطعن جمع إمضاء 30 نائباً، وهو ما تمكنت المعارضة من تأمينه بيسر بعدما بلغ عدد الموقعين 38 نائباً، فيما أكد الأمين العام لحراك تونس الإرادة، عماد الدايمي، أنّ عدد الموقعين على العريضة سيرتفع في الأيام المقبلة بانضمام عدد من نواب حركة النهضة الرافضين للقانون، مشدّداً على أن هذا القانون ساقط شكلاً ومضموناً بسبب خروقاته الدستورية المتعددة.
وأضاف الدايمي، في تصريح إذاعي، أنهم سيلجأون إلى الشارع في الفترة المقبلة ولا مجال لعودة نظام الفساد والمصالحة مع العهد البائد ما دامت الأغلبية لا تحترم رأي الأقلية في المجلس، وأن الشارع سيكون الفيصل.
من جهته، وصف الرئيس التونسي السابق، منصف المرزوقي، مصادقة مجلس نواب الشعب على قانون المصالحة بـ"مهزلة سياسية ومؤشر خطير يمسّ من جوهر المسار الديمقراطي". ورأى أن الأمر بالنسبة إلى القائمين على السلطة الحالية لا يعدو أن يكون سوى غلق لقوس الثورة التونسية نهائياً.
واعتبر المرزوقي أن الشعب التونسي بكل مكوناته وفئاته خصوصاً الشبابية، "قادر على الأخذ بزمام الأمور، وإحداث التغيير الذي يحفظ كرامته ويحصن البلاد من أي خطر داهم". وأكد الرئيس التونسي السابق، في ندوة صحافية، أن "من حق الشعب التظاهر سلمياً لرفض قانون المصالحة الإدارية وفق ما يكفله له الدستور".
من جهته، وصف المتحدث الرسمي باسم الجبهة الشعبية، حمة الهمامي، قانون المصالحة بالفضيحة لما تضمنه من خرق للقانون وللنظام الداخلي لمجلس النواب. وأشار إلى أن هذا القانون قسّم التونسيين، وهو قانون يضرب العدالة الانتقالية، ولا يسمح بتفكيك منظومة الفساد والاستبداد، الأمر الذي يدعو إلى التصدي له، بحسب تعبيره.
لكن هل تستطيع المعارضة فعلاً إسقاط القانون بالشارع، وهل تتمكن من الضغط لسحبه، وما هو الرهان السياسي لهذا القانون وانعكاساته على المشهد التونسي؟
تعتمد المعارضة التونسية على عوامل عدة، أولها أن منظمات كبيرة تعارض القانون، بينها اتحاد الشغل وهيئة المحامين وجمعية القضاة وعدد من المنظمات الدولية. لكنها تنطلق من تجربة فعلية بخصوص هذا القانون تحديداً، إذ نجحت في تغيير محتواه سابقاً وتأجيل النظر فيه مرات كثيرة، وفرضت استبعاد رجال الأعمال من المتمتعين بفوائد هذا القانون، ولم يبق منه الا عدد محدود من الموظفين. وسبق أن أكد رئيس لجنة التّشريع العام في مجلس النواب، الطيب المدني، أنّ 1500 موظّف سام سيكونون معنيين بقانون المصالحة الإداريّة (من الذين وقّعوا على عقود أو عمليات لفائدة الغير تحت ضغط التعليمات السياسية وقتها ولم يستفيدوا مادياً).
واعتبر مراقبون أن القانون أُفرغ من مضمونه وأنّ الرئاسة التونسية لم تتمكن من الإيفاء بوعودها الانتخابية في هذا الصدد، نظراً لأن القانون بصيغته القديمة كان يشمل الموظفين ورجال الأعمال، لكنه أصبح يقتصر على جزء من الموظفين فقط، ما دفع الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي إلى التصريح في حوار تلفزيوني، يوم الاثنين الماضي، بأن هذا المشروع الجديد ليس مشروعه الذي أعلن عنه. على الرغم من ذلك، تصرّ المعارضة على إسقاطه، إذ تعتبر أن القانون يتهدد الثورة ويتسامح مع منظومة الفساد، ما يقود سياسياً إلى فرز بين منظومتين ومعسكرين سياسيين جديدين، منظومة الثورة والنظام القديم.
غير أن كثيرين يعتبرون أن هذا الفرز قد تجاوزه الزمن، وأن حركة النهضة منحت شرعية لهذا القانون بالمصادقة عليه، حيث يتساءل الغنوشي: "لماذا هذا الصراخ والعويل بأن الثورة قد انتهت لأنها مارست العفو ولم تمارس الانتقام والتشفي، مع أن ثورة النبي عليه الصلاة والسلام، وهي أعظم ثورة مارست أعلى صنوف العفو يوم فتح مكة، فلم تتم إحالة زعماء الجاهلية على السيوف، وإنما أحالتهم إلى العفو، ليتحولوا إلى قادة في الصف الإسلامي".
وعبّر الغنوشي، في تصريح صحافي، عن ارتياحه لأن شعلة الثورة التونسية لا تزال متقدة، وقال: "جوهر الثورة هو الحرية، والحريات العامة والخاصة لا تزال قائمة في تونس بشهادة القريب والبعيد، من خلال الصحافة الحرة والانتخابات النزيهة والتعددية السياسية ومنظمات المجتمع المدني، وحرية النقد، وهذا ما لم تتمتع به تونس قبل الثورة"، و"لا خوف على الثورة التونسية، لأن جوهر الحرية لا يزال مصوناً، تصونه الصحافة الحرة والنقابات والأحزاب".
وأكد الغنوشي احترامه لموقف المعارضة "التي مارست حقها في التعبير عن رأيها الرافض لقانون المصالحة، وإن كانوا عارضوه أحياناً بطريقة فوضوية". وطرح الغنوشي سؤالاً آخر مهماً، لأن المعارضة "ينبغي عليها في نفس الوقت أن تقبل باللعبة الديمقراطية، ثم في النهاية تلعن اللعبة واللاعبين، عندما تكون نتائجها على غير ما أرادت".
لكن القانون قسّم حركة النهضة نفسها في البرلمان، حيث صوّت خمسة أعضاء ضد القانون، بينما تغيّب قرابة الثلاثين من النواب عن حضور الجلسة، وتمنى آخرون لو شاركوا في المسيرة التي شهدتها العاصمة يوم السبت الماضي، وهو ما يعني أن النقاش حول الموضوع لم يحسم داخل الحركة نفسها، وأن " ثوٌار" النهضة يعتبرون أن القانون جاء ضد الثورة.
ويعكس هذا الانقسام نفس الوضع الذي سبق الانتخابات الرئاسية عام 2014، عندما انحاز الغنوشي للباجي قائد السبسي، بينما ذهبت قيادات وقواعد كثيرة من الحركة إلى دعم المرزوقي "انتصاراً للثورة"، وهو الانقسام نفسه الذي برز خلال مؤتمرها العاشر الأخير، ما يعني أن هناك تيارين متباينين داخل الحركة لم ينجحا في الالتقاء إلى حد الآن برغم الانضباط الحزبي في الظاهر.
أما الرئيس التونسي فقد اعتبر أن معارضي قانون المصالحة أقلية، غير أنه لم يشر إذا كان يتحدث عن البرلمان أم الشارع، حيث يصر المعارضون على أن أغلب الشارع التونسي ضد القانون، وهو ما سيقود بالضرورة إلى مواجهات مقبلة لاستعراض شعبية كل معسكر، على أن تبقى سلمية وأن يقبل الجميع بقرارات المؤسسات القانونية، لأن تونس ليست قادرة على هزات جديدة.