وغدت مخططات بوتين الذي اقتنص لحظة تاريخية فاصلة في تاريخ روسيا والعالم، للحصول على تفويض يسمح له بتمديد حكمه حتى عام 2036 على المحك، وتتطلب توظيف مهارات وأدوات إضافية من أجل تمرير تعديل دستوري "يصفّر" عدّاد فترات الرئاسة بحجة المحافظة على الأمن والاستقرار في محيط عالمي عاصف، قد يسبّب تغيرات اجتماعية وسياسية لن تستثني أي دولة، ولا روسيا، نظراً لانهيار أسعار النفط وبروز بوادر أزمة اقتصادية، هي الأعمق منذ الكساد العظيم (1929). كذلك تُعَدّ الفترة المقبلة اختباراً قاسياً لقدرة موسكو على تجاوز المحنة داخلياً، ومخططاتها لبناء عالمي جديد تؤدي فيه دوراً مركزياً في عالم ما بعد كورونا. وبعد تفشي كورونا السريع في أوروبا، انتهزت "بروباغاندا" الكرملين الأوضاع المأساوية، لتوظيفها كأهداف سياسية لتلميع صورة الحكم المركزي القوي وإثبات قدرته على تطويق تداعياتها.
وفي حين تكتفي وسائل الإعلام الروسية الموجهة للداخل بالإشارة إلى التقارير الرسمية وكيل المديح لإجراءات السلطات الحاسمة والباكرة التي حدّت من انتشار كورونا، فإنها تركز جلّ اهتمامها على رسم صورة سوريالية لما يجري في أوروبا، مقابل نجاح الحليف الصيني في اجتياز المحنة.
فجأة انتقلت وسائل الإعلام الروسية من الترويج لنظريات المؤامرة لاستهداف الصين وحلفاء الكرملين المقربين، إلى حملة مركزة تصوّر أوروبا كـ"رجل العالم المريض"، وترسم انطباعاً بأن انتهاء الاتحاد الأوروبي كوحدة سياسية واقتصادية بات وشيكاً، مع إغلاق الحدود بين الدول وتركيزها على إنقاذ ما يمكن إنقاذه وحماية شعبها من مخاطر كورونا الذي أثبت هشاشة القطاع الصحي في أوروبا وعدم استعداده لكارثة عالمية. الأهم في انتشار الفيروس أنه كشف زيف قيم التضامن الأوروبية، في مقابل مسارعة روسيا إلى مساعدة إيطاليا وتزويدها بالمعدات الطبية وإرسال أطباء وخبراء لوقف الكارثة، حسب الإعلامي ديمتري كيسليوف، الموصوف بأنه "قائد بروباغاندا الكرملين".
وأشار كيسليوف إلى أن برلين وباريس قررتا التخلي عن روما في محنتها لتواجه موتها البطيء، كما أنه لم يفوّت الفرصة لنعي الليبرالية في العالم، مشيداً بالصين التي هبّت لمساعدة إيطاليا أيضاً ولم تتخلّ عن حلفائها الاقتصاديين في العالم. وعرض في برنامجه التلفزيوني "أخبار الأسبوع" منذ أيام، فيديو متداول للرئيس الصربي ألكسندر فوتشيتش وهو يهاجم الاتحاد الأوروبي، بعد قراره عدم إرسال معدات طبية إلى الدول غير الأعضاء، منتقداً بشدة تخلي الأوروبيين عن بلاده، ووصف التضامن الأوروبي بأنه "فارغ وعلى الورق فقط".
وعلى الجبهة الخارجية، يوظف الكرملين أدواته الإعلامية لمتابعة أخبار انتشار الفيروس في أوروبا والولايات المتحدة، راصداً عجز السلطات عن ضبطه ومحاربته. ويكفي إلقاء نظرة واحدة إلى العناوين الرئيسية في صفحات المحطات والمواقع الروسية بالإنكليزية والألمانية والفرنسية وغيرها، للخروج بنتيجة مفادها أن "العالم ينهار باستثناء روسيا وحلفائها"، عامدة إلى بث الخوف في صفوف متابعيها.
ومعلوم أن وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو اتهم روسيا في 20 مارس بنشر معلومات خاطئة حول فيروس كورونا، لافتاً إلى أن "المعلومات الخاطئة تهدف إلى تشويه سمعة الإجراءات الأميركية لمكافحة انتشار كوفيد ـ 19 (الاسم العلمي للفيروس)". لكن المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا، رفضت اتهامات بومبيو ووصفتها بأنها "ادّعاءات متعمدة". من جانبها، نشرت صحيفة "فايننشال تايمز" الأميركية مقتطفات من تقرير أوروبي صدر في 16 مارس الحالي، كشفت أن "مصادر المعلومات التي يسيطر عليها الكرملين تضلل عمداً مواطني الاتحاد الأوروبي حول الوضع الوبائي، وتهدف إلى تقسيم المجتمع الأوروبي، ونشر الذعر والخوف".
وأوضح التقرير أن "أكثر الأخبار المزيفة نشاطاً حول فيروس كورونا يتم نشرها على الشبكات الاجتماعية من الحسابات نفسها التي غطت في السابق احتجاجات السترات الصفراء". ورداً على هذه الاتهامات، قال النائب الأول لرئيس لجنة مجلس الاتحاد (الشيوخ) للشؤون الدولية، فلاديمير جاباروف: "يلوموننا؟ هم تعاملوا باستهتار مع الوباء. لم يغلقوا الحدود، ولم يبلغوا سكانهم بالخطر. العدوى لديهم بلغت أعلى المعدلات في العالم، والآن بأي حق يلوموننا؟". وخلص إلى أن الاتهامات "محاولة أخرى لإيجاد مذنبين".
ومن الواضح أن التركيز على موضوع فيروس كورونا سيكون مفيداً للغاية للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، من أجل التنفيذ السريع والفعّال للإصلاح الدستوري. فالنخب الحاكمة تراهن على عوامل، أهمها أنه في ظروف الأزمة العالمية والصعوبات الداخلية في البلاد، سيظهر الشعب الروسي بالتأكيد ميلاً لدعم حكومة قوية. ورغم وجود شريحة واسعة من المعارضين للتمديد لبوتين، تحديداً في المدن الكبرى، فإن السلطات لا تبدي خوفاً كبيراً من حراك واسع، لأنه في ظل الخوف من انتشار كورونا فإن الإقبال على التظاهر سيكون ضعيفاً من ناحية، كما يمكنها منع وحظر التظاهرات أو حتى قمعها بالقوة بحجة منع انتشار كورونا، في ظلّ نجاعة الإجراءات المتبعة في الأنظمة الاستبدادية في محاربة الفيروس، لعدم أخذها بالحسبان الحريات الشخصية. وحينها يمكن للسلطات تبرير القمع والتمديد لبوتين لمحاربة الوباء القاتل.
في المقابل، فإن خيار المبالغة في دور السلطة القوية في محاربة الوباء القاتل وتجاوز الأزمة الاقتصادية العالمية ينطوي على مغامرة خطيرة قد تقلب السحر على الساحر. ففي حال تصديق البيانات الرسمية حول عدم انتشار كورونا بشكل واسع في روسيا، فإن هذا لا يعني أنها ستبقى قلعة منيعة في وجه الفيروس الذي ينتشر بسرعة متجاوزاً الحدود، ولا يمكن إخفاء الحقائق بزيادة أعداد المرضى بالأنفلونزا الموسمية أو ذات الرئة الجرثومية إلى ما لا نهاية للتغطية على انتشار كورونا، ناهيك عن أن القطاع الصحي الروسي يعاني مشاكل أكبر من تلك التي تواجهها ألمانيا أو البلدان الأوروبية ولا يستطيع مواجهة جائحة ضخمة في حال خروج المرض عن السيطرة.
وتعكس تصريحات المسؤولين الروس حالة الفوضى، فرئيس بلدية موسكو سيرغي سوبيانين، الذين يترأس فريق مهمات لمكافحة فيروس كورونا في مجلس الدولة الروسي، لم يتردد في القول خلال اجتماع مع بوتين في القول إن المشكلة تكمن في أن حجم اختبارات فحص (الفيروس) منخفض جداً، ولا أحد يملك صورة واضحة. ووفقاً لما أوردته وكالة "فرانس برس"، أول من أمس الثلاثاء، قال سوبيانين إن "الصورة التي تتكشف خطيرة". وأضاف أن عدد الأشخاص المصابين بالفيروس أعلى "بكثير" من الأرقام الرسمية.
بدوره، حذر رئيس الأطباء دينيس بروتيسنكو، الرئيس الروسي من اتجاه روسيا إلى سيناريو إيطاليا، لناحية ارتفاع الحالات الخطرة والوفيات، خصوصاً في موسكو، مضيفاً أنه "من المهم الاستعداد للسيناريو الإيطالي إذا حدث ارتفاع كبير فموسكو تسير باتجاه ذلك". ورأى أنه إذا استقر عدد الحالات "فجأة"، فإن الأطباء سيشعرون ببهجة بالغة، ولكن "علينا أن نبقى مستعدين للأسوأ".
ومع عدم التيقن من التاريخ التقريبي لخروج العالم من محنة كورونا وعدم تحديد السلطات موعداً بديلاً للتصويت العام على التعديلات الدستورية، فإن المخاوف من انتشار المرض قد تجبرها على تأجيل التصويت إلى ما بعد الصيف المقبل، ما يفتح المجال أمام المعارضة لترتيب أفكارها وتنظيم صفوفها للخروج باحتجاجات ضد التمديد لبوتين، يمكن أن تكون أوسع من احتجاجات ساحة بولوتنايا في العاصمة موسكو نهاية 2011 وبداية 2012 ضد ترشح بوتين حينها لولاية رئاسية ثالثة، خصوصاً إذا فشلت السلطات بالتعامل مع كورونا.
ومن المؤكد أن الفترة القريبة المقبلة ستمثل اختباراً صعباً لمدى قدرة الاقتصاد الروسي على الصمود في ظل أزمة مالية عالمية تسببت حتى الآن في تراجع أسعار النفط، أهم مصدر للدخل في روسيا، وسوف تصل التأثيرات إلى مختلف القطاعات في حال طالت الأزمة، وقد تنذر بمشكلات اجتماعية بسبب ارتفاع البطالة وتراجع الدخل وزيادة الفقر في بلد يضم حالياً حسب البيانات الرسمية نحو 20 مليون فقير. ويمكن أن تتسبّب الأزمة في تعطيل مشاريع بوتين القومية، التي خصص لها في خطاب بداية العام نحو 25 تريليون روبل (325 مليار دولار)، في السنوات الخمس المقبلة. وحتى الآن يبدو واضحاً أن تصرف السلطات ينطلق من رهانها على قدرتها على مواجهة تأثيرات كورونا والأزمة الاقتصادية، انطلاقاً من تقديرات بأن أسعار النفط ستتعافى في الربع الثالث من العام الحالي، وستعود إلى حدود الـ60 دولاراً للبرميل، وهو تقدير لا يتفق معه كثير من المحللين الاقتصاديين العالميين، ويرتبط أيضاً بمدى تعافي الاقتصاد الصيني. كما يحذر خبراء من ضربة إضافية مصدرها "الحليف الصيني"، الذي ربما يقرر عدم تجاهل عروض شحنات النفط السعودية والخليجية الأرخص ويتخلى عن جزء مشتريات النفط الروسي الأغلى ثمناً.
ومن الواضح أن كورونا يمثل فرصة لإثبات فعالية الأنظمة الاستبدادية، لكن انتشاره في روسيا، وعدم قدرتها على إنقاذ الاقتصاد من تبعاته، يمكن أن يعطلا تكتيكات الكرملين لانتهاز الفرصة على الصعيدين الداخلي والدولي. فبعد أن أطاح الفيروس التصويت على التعديلات الدستورية، لم يعد مستبعداً إلغاء مراسم الاحتفالات بالذكرى الـ75 لعيد "النصر على النازية" في الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945)، في 9 مايو المقبل، التي أعدّ لها الكرملين بقوة من أجل إعلان فك العزلة الدولية عن روسيا، وإظهار "عظمتها" كوريثة الاتحاد السوفييتي وروسيا الإمبراطورية، بـ"قيصر" مدعوم بتفويض شعبي، إضافة إلى أعمدة حكمه الأساسية في الجيش والكنيسة الأرثوذكسية وأجهزة الاستخبارات. ودولياً فإن تعافي أوروبا بشكل سريع وتجاوز محنتها من دون الإضرار باتفاقية "شنغن"، وجه ضربة إلى مخططات الكرملين المبنية على تحالفه مع الدول القومية في أوروبا الممزقة، تضم أيضاً الصين التي تملك أيضاً استراتيجية مختلفة عن روسيا، تستطيع الدفع بها من دون علاقات استراتيجية وتقديم تنازلات لموسكو.