يستحضر هذا التطور التاريخ المعقّد للعلاقة بين واشنطن وكراكاس، مع ما يحمله من سرد فنزويلي عن محاولات انقلاب أميركية، وسرد أميركي عن الطغاة اليساريين في أميركا اللاتينية. عندما فرضت بريطانيا وإيطاليا وألمانيا حظراً بحرياً على فنزويلا عام 1902، لأنّ رئيسها رفض حينها دفع الديون الخارجية المترتبة على بلاده، وقفت واشنطن على الحياد، وأدّت هذه الأزمة حينها إلى تعديل عقيدة الرئيس الأميركي وقتها، جيمس مونرو، التي كانت تعترض على الاستعمار الأوروبي في القارة الأميركية. ماهية هذا التعديل في المقاربة الأميركية خلال عهد الرئيس تيودور روزفلت كانت تكريس فكرة التدخل الأميركي لفرض المطامع الأوروبية في أميركا اللاتينية بدل قيام الأوروبيين أنفسهم بهذا الأمر. بدأت بعدها محاولات واشنطن توسيع نفوذها في أميركا اللاتينية عبر القوة الاقتصادية وتوفير القروض المالية، كما دعمت حكومات فنزويلية مناهضة للشيوعية كانت تستفيد من الاستثمارات الأميركية في النفط لتمويل فسادها وقمع معارضيها.
جذور الأزمة الحالية تعود إلى انتخاب هوغو تشافيز رئيساً قبل 20 عاماً، حين كسر العزلة الأميركية على كوبا وقطع الروابط العسكرية بين البلدين، كما استمر في نهج إلغاء المعارضة وتشتيتها. وقد بدأ منذ ذلك الوقت الترويج للأفكار الأميركية بإطاحة تشافيز الذي كان يعتقد أنّ الاستخبارات الأميركية تحاول تنفيذ انقلاب ضده أو اغتياله أو غزو فنزويلا. لكن توفرت معطيات في السنتين الأخيرتين جعلت تحقيق الهدف الأميركي بإطاحة الحكومة اليسارية في كراكاس ممكنة، وهي تدهور الوضع الاقتصادي في فنزويلا، واضطهاد نظام مادورو لمعارضيه وصعود اليمين في أميركا اللاتينية، ووجود رغبة أميركية في التدخّل. هذه الرغبة الأميركية لها بعدان رئيسيان يحركان ديناميتها الداخلية، وسيحددان على الأرجح مقاربة واشنطن في المرحلة المقبلة.
توسع نفوذ التيار المحافظ في إدارة ترامب
منذ التسعينيات وعين التيار المحافظ على تعديل نظام الحكم في فنزويلا لأسباب أيديولوجية ودينية، وكانت هناك على سبيل المثال الدعوة الشهيرة للقسّ الأميركي الإنجيلي، بات روبرتسون، إلى اغتيال تشافيز عام 2005. مع وصول ترامب إلى الحكم، وبعد تنحي كل من وزير الدفاع جيمس ماتيس، وكبير موظفي البيت الأبيض جون كيلي، توفّرت الظروف لتحقيق هذا الهدف، في ظلّ توسّع نفوذ التيار المحافظ في إدارة ترامب بقيادة نائب الرئيس مايك بنس، مع وزير الخارجية مايك بومبيو، ومستشار الأمن القومي في البيت الأبيض جون بولتون، والسيناتور الجمهوري عن فلوريدا ماركو روبيو. واللافت أيضاً كان استدعاء إليوت أبرامز، أبرز الرموز المحافظة في إدارة جورج بوش الابن، وتعيينه لينسق السياسة الأميركية تجاه فنزويلا.
الأزمة الحالية هي ذروة سنتين من ضغوط إدارة ترامب على مادورو عبر إقرار عقوبات ورفع اللهجة والتلويح بالخيارات العسكرية. ترامب الذي لم يذكر فنزويلا خلال حملته الرئاسية، جعل هذه القضية على رأس أولويات كل محادثاته مع زعماء أميركا اللاتينية منذ وصوله إلى الحكم. الخطة الأميركية تمّ تنفيذها بإحكام، لأنّ هناك لأول مرة معارضة موحدة داخل فنزويلا لتوفير دعم لها. التمهيد لخطوة اعتراف واشنطن بالرئاسة المؤقتة الجديدة في كراكاس كان خلال زيارة سرية قام بها غوايدو في أواسط الشهر الماضي إلى أميركا وكولومبيا والبرازيل، لإبلاغ المسؤولين فيها بخطط المعارضة التحرّك خلال حفل قسم اليمين لمادورو في 10 يناير/ كانون الثاني الحالي. وتلقى غوايدو ضمانات بأنّ واشنطن وحلفاءها الجدد في أميركا اللاتينية سيعترفون بشرعية رئاسته عندما يعلن عنها رسمياً، كما كان لافتاً دور كندا الرئيسي في دعم صعود غوايدو في تقاطع مصالح قلّ نظيره مع إدارة ترامب.
وطلب البيت الأبيض من الاحتياطي الفدرالي الأميركي أن يكون غوايدو نقطة الاتصال لكل ما يتعلّق بالأصول الفنزويلية وتعاملات فنزويلا مع المصارف الأميركية. كذلك وضعت إدارة ترامب يدها على أصول الحكومة الفنزويلية في أميركا، لا سيما شركة "سيتغو" النفطية التي للمناسبة قدمت مبلغ 500 ألف دولار هدية لحفل تنصيب ترامب في يناير/ كانون الثاني 2017. لكنّ السؤال الأهم في هذه الأزمة الناشئة سيكون هل سيستخدم ترامب سلاح النفط؟
المصالح النفطية أهم من السياسة؟
على الرغم من كل الأزمات والتراشق الدبلوماسي خلال العقدين الأخيرين، لم تتأثر العلاقة العضوية التي تربط واشنطن بكراكاس، وهي النفط. أميركا هي أكبر مستورد للنفط الفنزويلي (39 في المائة من إنتاج العام الماضي)، وفنزويلا هي رابع أكبر مصدّر للنفط إلى أميركا بعد كندا والسعودية والمكسيك. وتشير المعلومات إلى أنّ ترامب يدرس خيار فرض عقوبات على النفط الفنزويلي، ما قد يؤدي إلى تعديل الدينامية النفطية بين البلدين، وهي خطوة ستحاصر اقتصاد فنزويلا المتعثّر أصلاً، وترفع من أسعار النفط في الأسواق الأميركية التي اعتادت على استهلاك النفط الفنزويلي منخفض الأسعار. وقد استوردت أميركا في شهر أكتوبر/ تشرين الأول الماضي 560 ألف برميل نفط يومياً من فنزويلا، بحسب إحصاءات إدارة الطاقة الأميركية. كذلك، هناك شركات نفط أميركية تعمل داخل فنزويلا (شيفرون وسيسكو) وهي في موقف صعب الآن وتتواصل إدارة ترامب معها. كذلك يعتمد قطاع النفط الفنزويلي على مواد أميركية للتخفيف من ثقله وتسهيل إمكانية نقله وتصديره.
إذا اتخذ ترامب هذه الخطوة غير المسبوقة في فرض عقوبات نفطية، فهذا يعني أن الأزمة مع فنزويلا وصلت إلى نقطة اللاعودة مهما كان الثمن. لكن في سوابق مشابهة، اتخذ ترامب مواقف أكثر ليونة خشية من ارتفاع أسعار النفط، كما كان الحال خلال أزمة الاتفاق النووي مع إيران وبعد اغتيال الصحافي السعودي جمال خاشقجي في العام الماضي. وفي حال فرض ترامب عقوبات على القطاع النفطي الفنزويلي، فهذا قد يؤدي إلى تعطيله أو ربما إلى مواجهة محلية بين الأطراف السياسية المتنازعة.
حسابات ترامب الرئاسية وخياراته المحدودة
لهذه المغامرة الفنزويلية حسابات رئاسية أيضاً. أراد ترامب في هذه المغامرة إعطاء قاعدته المحافظة التي كانت متعطّشة للبقاء العسكري في سورية شيئاً ما يروي غليلها، وفرصة فنزويلا كانت مؤاتية لصرف النظر عن تخبّط واشنطن في سورية.
ومغامرة فنزويلا ممكن أن ترتدّ على ترامب أو تعطيه إنجازاً وحيداً في السياسة الخارجية يحتاج إليه في حملته الرئاسية المقبلة. وفي كلا الحالتين، ستساعده بين قاعدته المحافظة في ولاية فلوريدا المحورية، لا سيما بين الجاليتين الفنزويلية والكوبية.
هذه المقاربة الأميركية في فنزويلا تُثير أيضاً انتقادات التيار اليساري في الحزب الديمقراطي، وتعطي ترامب تفوقاً على الليبراليين في مجال الأمن القومي. فيوم الخميس الماضي، انتقد ترامب طروحات يسارية في الكونغرس تدعو لرفع نسبة الضرائب إلى 70 في المائة، وحذّر من اشتراكية أميركية يكون مصيرها مشابهاً لما يحصل في فنزويلا.
ترامب يدرس كل الخيارات في فنزويلا، لكن يبدو أن هناك خطوطاً حمراء قد يتردّد بتجاوزها، وهي استخدام الخيار العسكري وفرض عقوبات على قطاع النفط الفنزويلي، لا سيما أنّ مفتاح الحلّ في كراكاس هو الجيش، حيث النفوذ الأميركي شبه معدوم. هناك انقسام متوقّع يلوح في الأفق حول هذه القضية في أميركا اللاتينية وفي البلدان الكاريبية، ومواجهة دبلوماسية مع روسيا قد تساعد ترامب داخلياً في ظلّ تحقيقات روبرت مولر بتدخّل موسكو في الانتخابات الرئاسية الأميركية عام 2016، لا سيما في ظلّ معلومات كشفتها وكالة "رويترز" عن إرسال مرتزقة روس إلى فنزويلا لحماية مادورو، على غرار ما فعلته موسكو في أوكرانيا وسورية. هذه الأزمة قد تطول، ما يعطي ترامب فرصة الاستفادة منها شعبياً، ومهما كان سيناريو الأشهر المقبلة، سيتباهى ترامب خلال الحملة الرئاسية المقبلة بأنه أسقط مادورو أو حاول إسقاطه على الأقل.