يتجه مسار جنيف التفاوضي بين المعارضة السورية والنظام نحو التأزيم والتعقيد، إذ بات من الواضح أنه وصل إلى باب مسدود، في ظل رفض النظام الانخراط في تفاوض جدي، فهو يرى نفسه منتصراً ومن حقه إملاء ما يريد على المعارضة التي تتسلح بقرارات دولية متعددة، لا يبدو أن المجتمع الدولي معني بتنفيذها، خصوصاً أن سورية باتت "محمية" روسية، وورقة مساومة بين موسكو والغرب حول ملفات أخرى. وبعد عدة جولات من مفاوضات جنيف، تبيّن للمعارضة السورية، أن هذه المفاوضات باتت "عبثية" و"ملهاة" على حساب دماء السوريين، إذ تؤكد مصادر مواكبة للمفاوضات أن المبعوث الأممي، ستيفان دي ميستورا، لجأ إلى تهديد المعارضة بشكل واضح، بل هددها بنقل الاهتمام السياسي والإعلامي إلى مؤتمر سوتشي لـ"الحوار السوري" الذي تستعد روسيا لعقده العام المقبل.
وقالت مصادر إعلامية مواكبة للجولة الثامنة من مفاوضات جنيف، إن دي ميستورا أبلغ وفد المعارضة السورية، أول من أمس، أن تغيير بشار الأسد يتم عبر الانتخابات، مشيرة، لـ"العربي الجديد"، إلى أن دي ميستورا أبلغ الوفد أيضاً رفض وفد النظام إجراء مفاوضات مباشرة. وبذلك فقدت المفاوضات أهميتها بالنسبة إلى المعارضة التي تتمسك ببيان "جنيف 1" والقرارين 2218 و2254، وكلها تدعو إلى انتقال سياسي في البلاد، إذ يبدو أن المبعوث الأممي يسعى إلى تأجيل التفاوض حوله. كما أشارت المصادر إلى أن دي ميستورا نقل لوفد المعارضة أنها لم تعد تحظى بدعم دولي، وأن تركيا تدعم مؤتمر سوتشي المقرر عقده بدايات العام المقبل، فيما شدد وزير الخارجية التركي، مولود جاووش أوغلو، أمس الثلاثاء، على عدم وجود أي تغير في موقف تركيا من موضوع الأسد. وقال "من المهم في هذه النقطة، توصل النظام ومجموعات المعارضة إلى وفاق حول الحكومة الانتقالية، وموقفنا في هذا الموضوع واضح"، مضيفاً "نعتقد أن الأسد لن يتمكن من توحيد سورية، حتى لو تشكلت حكومة انتقالية، بل على العكس سيفتتها". وأعرب عن اعتقاده أنه لا يمكن التحضير بشفافية لانتخابات نزيهة في سورية مع حكومة انتقالية بوجود الأسد. كما أن وزير الخارجية الأميركي، ريكس تيلرسون شدد، بحسب مسؤول أميركي، على أن الأسد "وحش" ولا مكان له في مستقبل سورية.
من جانبه، قال عضو وفد المعارضة أحمد العسراوي، لـ"العربي الجديد"، إن دي ميستورا قال إن "الدستور والانتخابات مقدمات التغيير"، معتبراً أن ما نقلته وسائل إعلام عن هذا الأمر "ليس دقيقاً"، مضيفاً "لن نأخذ ما قاله المبعوث الأممي بمنحى سلبي حتى اللحظة". وأشار العسراوي إلى أن ما طلبه وفد النظام عن عدم ذكر مصير بشار الأسد خلال التفاوض "هو شرط مسبق"، مضيفاً "يجب أن يطرح كل شيء على طاولة التفاوض"، مؤكداً أن الحديث عن دستور أو انتخابات يجب أن يأتي في سياق الانتقال السياسي. وأشار إلى أن العملية الدستورية تتضمن جانبين، الأول هو إعلان دستوري ينظم المرحلة الانتقالية، والثاني دستور دائم للبلاد تضعه جمعية يجب أن نحدد مبادئها خلال التفاوض، رابطاً التفاوض حول العملية الدستورية والانتخابات بعملية الانتقال السياسي.
وأكدت مصادر مواكبة للمفاوضات، أن المبعوث الأممي طلب من المعارضة السورية تأجيل النقاش بالانتقال السياسي والبدء بالتفاوض حول العملية الدستورية من أجل تحقيق تقدم، مشيرة إلى أن المعارضة كانت واضحة بالتمسك بالقرارات الدولية التي تدعو إلى إنجاز انتقال سياسي يقوم على هيئة حكم مشتركة كاملة الصلاحيات، وأن التفاوض حول الدستور والانتخابات قبل الانتقال السياسي بمثابة وضع العربة أمام الحصان. وأوضحت المصادر أن وفد النظام عاد للتشكيك بوفد المعارضة لجهة تمثيله لكل تيارات المعارضة السورية، مطالباً بدعوة ما يسميه بـ"معارضة الداخل" إلى مفاوضات جنيف، في إشارة إلى أحزاب تُوصف بـ"الكرتونية" شكلتها أجهزة النظام الأمنية. كما يطالب وفد النظام بـ"سحب" بيان "الرياض 2" الذي صدر أخيراً، وأثار حفيظة النظام بسبب مطالبة المعارضة فيه برحيل الأسد عن السلطة مع بداية المرحلة الانتقالية. وأشارت المصادر إلى أن المبعوث الأممي فشل بالضغط على وفد النظام، فلجأ إلى ممارسة ضغوط "كبرى" على وفد المعارضة والتهديد بتوجيه الاهتمام إلى مؤتمر سوتشي. وذكرت، أن دي ميستورا قال للوفدين، إنه سيلجأ إلى مجلس الأمن الدولي لوضعه في صورة ما جرى، خصوصاً عدم تقديم الوفدين ما يساعد في نجاح المفاوضات.
وأشارت مصادر مطلعة، لـ"العربي الجديد"، إلى أن المبعوث الأممي "ربما يعلن فشل مفاوضات جنيف أو تجميدها في الوقت الراهن". وفي السياق، نقلت وكالة "الأناضول" التركية عن "مصادر موثوقة واسعة الاطلاع على المفاوضات في جنيف 8" إن دي ميستورا طلب من وفد المعارضة أن يكون "واقعياً"، معتبراً أن المعارضة فقدت الدعم الدولي. وأضافت، بحسب المعلومات المتوافرة من تلك المصادر، أن "اجتماع الإثنين بين دي ميستورا وفريقه مع المعارضة، كان سيئاً بالنسبة للأخيرة، حيث تحامل دي ميستورا على المعارضة، مطالباً إياها بأن تكون واقعية أكثر، وتتعامل وفق ذلك مع المعطيات". ونقلت عن المصادر ذاتها، إن المبعوث الأممي اعتبر أن المعارضة "فقدت دعمها الدولي"، وأنها إذا شاركت في مؤتمر سوتشي من دون تحقيق تقدم في سلة الدستور في اجتماعات جنيف الحالية، فإنها "ستتلاشى وتضيع هناك"، وسيكون سوتشي بديلاً لجنيف. ولفتت المصادر ذاتها إلى أن دي ميستورا اعتبر أن "المعارضة تحلل القرار الدولي 2254 وبيان جنيف 1 (2012) بشكل خاطئ، وتدلي بتصريحات ترفع من سقفها دون أساس واقعي".
من جهته، اعتبر المتحدث باسم الوفد التفاوضي المعارض في جنيف، يحيى العريضي، أن ما تتناقله وسائل الإعلام "لا يقدم ولا يؤخر"، مضيفاً، في حديث مع "العربي الجديد"، أن "هذه تكتيكات في استراتيجية مفاوضات نفهمها تماماً ونستوعبها ولا يمكن أن يهزنا شيء". وأضاف أن "وفد المعارضة لديه إطار القرارات الدولية، خصوصاً 2254، والذي من خلاله يمكن مناقشة تلك الأعمدة والعناصر الأساسية المشكلة لعملية الانتقال السياسي، ولا أحد يستطيع أن يتهرب من هذه المعايير والقرارات، ودور الوسيط الدولي عملياً هو دور ميسر ومسهل للعملية، وليس لإصدار أحكام ليست من حقه". وقالت مصادر مطلعة، لـ"العربي الجديد"، إن وفد النظام رفض مناقشة أسئلة المبعوث الأممي الـ 12 في ورقة المبادئ المتعلقة بمستقبل سورية السياسي، كما رفض التطرق إلى موضوع المعتقلين، والمناطق المحاصرة كما ينص القرار الدولي 2254.
ومن الواضح أن مسار جنيف بات برمته في "مهب رياح" مؤتمر سوتشي، الذي تسعى روسيا إلى أن يكون بديلاً عن مسار جنيف، لأنها تستطيع فرض ما عجزت عن فرضه في مفاوضات جنيف، إذ لن يكون هناك تفاوض في سوتشي بل استعراض سياسي لا أكثر. وهذا ما يفسر عدم انخراط النظام في مفاوضات جادة، ومتابعة أسلوبه في تبديد الوقت بقضايا على هامش التفاوض، إذ لم تمارس موسكو ضغطاً على النظام من أجل تسيير التفاوض للتوصل لحل سياسي بات بعيد المنال في الوقت الراهن. ويبدو أن القضية السورية بدأت تتجه إلى مستويات جديدة، إثر اصطفافات إقليمية ودولية تدفع إلى حلول لا تلبي الحد الأدنى من مطالب المعارضة السورية التي تبدو أنها باتت بلا نصير حقيقي في ظل عدم اكتراث أميركي بالضغط الكافي والقادر على تغيير دفة الصراع بشكل كبير.
وليس من المتوقع أن يحصل اختراق في "جنيف 8"، إذ تتمسك المعارضة بالقرارات الدولية، في وقت يلعب النظام دور "المنتصر"، رغم أن نصره الإعلامي جاء بسبب الطيران الروسي والمليشيات الإيرانية التي تسيطر على أماكن سيطرة النظام وتفرض مشيئتها بشكل كامل. وبدأت وسائل إعلام تابعة للنظام الترويج لفكرة أن عملية جنيف "بحاجة إلى مراجعة" وأن القرار الأممي 2254 "أصبح ضيقاً جداً، ولا يناسب الوقائع العسكرية والسياسية الجديدة"، في مؤشر على أن العملية السياسية برمتها باتت خارج حسابات النظام. وذهب إعلام النظام أبعد من ذلك من خلال مطالبة عودة قوات النظام إلى مناطق خفض التصعيد الأربع التي تسيطر عليها المعارضة في جنوب وشمال غرب ووسط سورية. ولا تبدو المعارضة في وضع يساعدها على تحقيق مطالب الشارع السوري المعارض عبر المفاوضات في جنيف، وهو ما سيدفعها للجوء إلى خيارات أخرى. وقال مصدر في وفد المعارضة السورية، لـ"العربي الجديد"، نعلم أن النظام غير جاد في المفاوضات، وأنه يريد كل شيء، ولكن جبهة جنيف على مساوئها أفضل لنا من جبهات أخرى.