لأن الحراك الشعبي في الجزائر لا يريد أن يتوقف قبل أن يحقق مطالبه المركزية، ولم يكتفِ بسلة المنجزات المحققة منذ 22 فبراير/ شباط الماضي، أخذت المؤسسة الأمنية على عاتقها استدعاء الخوف وفزاعة التشدد وإحباط مخططات إرهابية واعتقال فواعل أجنبية واستحضار الحدس التآمري، والخوف من الانزلاق وتسلل مجموعات المنحرفين إلى التظاهرات. قد تبدو هذه المخاوف طبيعية ومتوقعة في حراك مليوني مثل الذي تشهده الجزائر، لكنها لن تكون مطلقاً عائقاً لدفع الجزائريين للعودة إلى بيوتهم قبل تحقيق مطالبهم. والطريقة التي طرحت بها المؤسسة الأمنية سلة المخاوف هذه، وجاءت في شكل بيان سياسي، تدعو إلى التوجس أولاً من رغبة السلطة في استخدام الحل الأمني تحت تلك الذرائع لوقف الحراك الشعبي.
عندما يعلن الأمن عن اعتقال منحرفين وتوقيف إرهابيين أو إحباط أعمال تخريب، أو حماية وتأمين المنشآت وتسيير الحركة المرورية، تلك مهمته ووظيفته الأساسية، لأن دور الأجهزة الأمنية ليس قطف التفاح أو زراعة القمح، وما يقوم به أي أمني في سياق عمله ليس منّة منه، ففي نهاية كل شهر يتقاضى رجل الأمن مرتباً من الضرائب التي يدفعها الشعب. ورجل الأمن أياً يكن موقعه، سواء كان في الأمن العام وتسيير حركة المرور، أو في الاستعلامات، أو في جهاز المخابرات أو تفكيك المتفجرات، اختار ذلك طواعية، مثلما اختار الطبيب والمهندس والعامل في المنجم وعامل النظافة وسائق الشاحنات التي تنقل المؤونة والمواد الغذائية من الشمال إلى بلدات أقاصي الجنوب، موقعه وعمله.
ثمة مسلّمات كان يجب ألا تبقى كذلك. صحيح أن الأمن والجيش عماد الدول وركيزة في الحفاظ على سيادتها واستقرارها، لكن ذلك التقديس المبالغ فيه للمؤسسة الأمنية والعسكرية، جزء مؤسس لأزمة الديمقراطية في الجزائر وفي مجموع الدول العربية، لأن السلطة ظلّت تستخدم ذلك كأدوات لقمع الحريات وملاحقة المعارضين وإحباط الخيارات الشعبية والتضييق على الفاعل السياسي والمدني.
في الغالب تكون المؤسسات الأمنية أكثر من يقاوم المسارات الديمقراطية الفتية في الدول التي تشهد تحوّلات سياسية، ذلك أنه في الوضع الديمقراطي، تكون المؤسسة الأمنية والمؤسسة العسكرية نفسها تحت رقابة السلطة السياسية، وتحت قدر كبير من الشفافية التي لا تسمح لها بارتكاب أي تجاوزات، ولأنه في الوضع الديمقراطي يكون رجل الأمن أو أي مجموعة أمنية تحت سطوة القضاء في حال ارتكاب تجاوزات، وليس تحت حماية السلطة.
الجزائريون بحاجة إلى مؤسسة أمنية أكثر تفتحاً ومرافقة للمرحلة التي ستفرزها مآلات الحراك الشعبي والمنحى الديمقراطي، وتغيير في العقل الأمني من منطق المنّة إلى مفهوم الواجب المهني الصرف، وتغيير مفهومها للحريات وللفضاء العام وللحق في التظاهر، وللفرق بين القمع والحفاظ على الأمن العام، وللهامش بين الفوضى والحق في التظاهر، وبين احترام القانون والخضوع للتوظيف السياسي.