ويمكن القول إنّ العوامل التي باتت تتحكّم باللعبة السياسية وتغيّرها في بافاريا عديدة، ويعود الجزء الأهمّ منها إلى "الاجتماعي المسيحي" نفسه، مع عجزه عن مقاربة استراتيجية سياسية واضحة بعد تشكيل الائتلاف الحاكم في مارس/ آذار الماضي، وهو ما أحدث شرخاً بينه وبين جمهوره العريض الذي والاه على مدى عقود، إضافة إلى تراجع الأولويات لدى الناخب الذي بات يرفض فكرة المراوغة والفشل السياسي لقادة ومسؤولي الحزب.
وبالتالي، يمكن القول أيضاً إنّ الناخب البافاري تحرّر من القيود وفكرة الولاء الحزبي، وبرهن عن نضج سياسي واجتماعي، ويريد اليوم المحاسبة، وهو ما ترجمه فعلياً في الانتخابات العامة العام الماضي. إلى ذلك، فإنّ ابتعاد الناخب عن الكنيسة وتراجع دورها، انسحب على الانخفاض المستمرّ في نسبة الإقبال على التصويت، ناهيك عن انتقال الآلاف من الألمان إلى بافاريا، حيث فرص العمل والجامعات الجيّدة بالنسبة للشباب والطبيعة الجذابة للمتقاعدين، وغالبية هؤلاء غير مهتمين بالسياسة. علماً أنّ القانون البافاري يسمح لكل مواطن ألماني مستقرّ في الولاية منذ أكثر من ثلاثة أشهر، وبلغ سن 18 عاماً، أن يشارك في الانتخابات.
واستناداً إلى أرقام مكتب الإحصاءات الحكومي البافاري، والتي نشرتها تقارير صحافية ألمانية عدة، فإنه منذ العام 2003، انتقل إلى بافاريا 1.6 مليون مواطن من الولايات الأخرى، للعمل والعيش في الولاية. وبالطبع كل ذلك أتى بفعل النمو الاقتصادي الذي تحقّق، والنجاح في مجال التطوير والابتكار الصناعي والطبي المستمر عبر أهم الشركات، التي تتخذ من بافاريا مقراً لها. وهذا ما ساهم في زيادة الطلب على اليد العاملة بعد حصولها على أسواق جيّدة لإنتاجها.
كذلك، يترافق الوضع الاقتصادي المزدهر في بافاريا مع نسبة بطالة لا تزيد عن 2.9 في المائة فقط، فيما فاقت نسبة النمو منذ العام 2010 في الولاية جميع الولايات الأخرى، وتمّ خفض الديون في الفترة نفسها من 31.7 مليار يورو إلى 22.1 مليار يورو. وإذا ما استمرّ الوضع على هذا المنوال، فإنّ بافاريا ستكون بحلول العام 2030 من دون ديون.
لكنّ الزيادة في عدد المقيمين في الولاية نتجت عنها تغيّرات في التكوين الاجتماعي والديمغرافي، لأنّ الكثير من هؤلاء عادة ما لا يكون لديهم أي اهتمام سياسي أو حزبي في بافاريا. ويعدّ ذلك أكبر التحديات التي تواجه "الاجتماعي المسيحي" لاستقطاب هذه الفئة من الناخبين.
ويعزو بعض الخبراء في الشأن السياسي البافاري هذا التحدي إلى تركيبة الجيل الجديد في الحزب "الاجتماعي المسيحي"، والذي يختلف عن الجيلين الأول والثاني، اللذين كانت سياستهما تعتمد على التودّد والتقارب بين الناخبين وقياديي الحزب على المستويات كافة. بينما يبدو الآن أنّ هناك شبه عجز عن أداء هذا الدور، أو أنّ الجيل الحالي من الحزب لا يرغب في ذلك، وهذا ما جعل الحملة الانتخابية لـ"الاجتماعي المسيحي" أصعب من أي وقت مضى. حتى أنّ المراقبين يتحدثون عن عملية خداع يعيشها الناخب البافاري مع قادة ومسؤولي "الاجتماعي المسيحي"، كما أنّ الأخيرين يعانون من مشكلة مصداقية، لكونهم لا يستطيعون تنفيذ أو فرض كل ما يعدون به.
وساعد هذا الأمر الأحزاب الصغيرة على تعزيز حضورها في الولاية الأغنى في البلاد، وهو ما أكّدته أرقام استطلاعات الرأي، وأبرزها تلك التي تمنح حزب "الخضر" 18 في المائة من الأصوات بعدما كانت 8.6 في المائة عام 2013، ليصبح بذلك ثاني أكبر قوة خلف "الاجتماعي المسيحي" الذي يعاني من ضعف هائل بين ناخبيه. وقد مكّن هذا الضعف "الخضر" وخلال الأعوام الثلاثة الماضية، مع قاعدته وجمهوره الأكاديمي غير التقليدي، من شدّ عصب الناخبين صوبه، وخصوصاً أنه لم يعد متمسكاً بطروحاته وشعاراته في عالم البيئة بشكل خاص، وحمل ملفات تخصّ المواطن البافاري وأمنه الاجتماعي، من السكن والإيجارات الباهظة إلى العولمة والمطالبة بتعزيز حضور الشرطة، بعد الخضات التي عاشتها ألمانيا وأوروبا على وقع الهجمات الإرهابية التي طاولت القارة العجوز.
بمعنى آخر، يمكن الحديث عن سياسة اجتماعية وبيئية عند "الخضر"، ولكن ليس عن سياسة استبدادية أو معادية لأوروبا، كما فعل زعيم "الاجتماعي المسيحي" هورست زيهوفر، الذي عمل على مناكفة المستشارة أنجيلا ميركل، سعياً وراء تكبير حجمه داخل "الاتحاد المسيحي"، في وقت كانت البلاد تشهد نقطة تحوّل قلبت الموازين الحزبية في ألمانيا راساً على عقب. كما ساهمت هذه التحولات في تراجع حضور "الاتحاد المسيحي" الذي يضمّ حزب زيهوفر والحزب "المسيحي الديمقراطي" بزعامة ميركل، رغم وصولها على رأس المستشارية لولاية رابعة مع شبه انهيار لـ"الاشتراكي الديمقراطي" والذي تراجع أيضاً في بافاريا من 20.6 في المائة عام 2013 إلى 11 في المائة حالياً.
وكل ذلك صبّ في صالح حزب "البديل من أجل ألمانيا" اليميني الشعبوي، الذي تأسّس عام 2013، ويتحضّر اليوم لدخول برلمان بافاريا للمرة الأولى، فيما تمنحه استطلاعات الرأي نسبة 14 في المائة من أصوات الناخبين. وكذلك صبّ في صالح الحزب "الليبرالي الحرّ" الذي تمنحه الاستطلاعات نسبة 6.5 في المائة، ما سيعطيه فرصة للعودة إلى برلمان الولاية، بعدما لم ينل سوى 3.5 في المائة في انتخابات عام 2013، وغاب لعدم نيله معدل 5 في المائة المحددة قانونياً.