فتحت الحرب في اليمن آفاقاً جديدة للحراك الجنوبي، الذي يطالب بفصل جنوب اليمن عن شماله، وحققت جزءاً من أهدافه المتمثلة بالسيطرة على الأرض ومسك زمام الحكم في المحافظات المحررة جنوباً. ولم يكن أكثر المتفائلين من الحراك الجنوبي، يتوقع أن تتمكن قياداته من الوصول إلى منصب محافظ أو مدير أمن، فضلاً عن تقلّد منصب وزير في الحكومة. لكن بعد عامين من تدخل التحالف العربي في اليمن، اختلف الوضع في محافظات الجنوب، فـ"الحراك"، الذي كانت أنشطته تنحصر في مليونيات وتظاهرات هنا وهناك، صار الحاضر الأكبر في منظومة الحكم بعد تحرير المحافظات الجنوبية من سيطرة مليشيا الحوثي وعلي عبد الله صالح.
واستفاد الحراك الجنوبي من مشاركة عدد من قياداته في مقاومة مليشيا الحوثي وصالح، الأمر الذي دفع بالرئيس اليمني، عبد ربه منصور هادي، وتماشياً مع الواقع الجديد على الأرض، إلى تعيين محافظين ومدراء أمن للمحافظات وقادة ألوية عسكرية من الوجوه البارزة في الحراك الجنوبي، أمثال محافظ عدن، اللواء عيدروس الزبيدي، ومدير أمنها، شلال علي شايع، فضلاً عن تعيين القيادي البارز في "الحراك"، ناصر الخبجي، محافظاً لمحافظة لحج، وغيرهم كثير.
وبالرغم من أن هذه القيادات تعمل في إطار شرعية هادي والدولة اليمنية الموحدة، إلا أنها لا تخفي أن حكمها لبعض المحافظات ما هو إلا خطوة نحو تقرير المصير واستعادة الدولة الجنوبية. وظهر ذلك جلياً، في بيان لمحافظ عدن، قبل أسابيع، حين قال، خلال حديثه عن المعارك في المخا، شمال عدن، "من دون جدال، وبشكل مبدئي، نحن متمسكون بثوابتنا النضالية وجغرافيتنا السياسية، التي تبدأ وتنتهي عند حدود العام 1990 (جنوب اليمن سابقاً)، لكن واجبنا الأخلاقي وأمننا القومي والجيوسياسي سيمتد حيث ما توجب علينا الحضور".
ويبدو أن مشاركة قيادات "الحراك" في منظومة الحكم لا تأتي من بوابة الانصهار ضمن مشروع الأقاليم الذي يتبناه هادي، بل من باب مسك زمام الأمور جنوباً نحو تحقيق الانفصال، وهو ما يظهر من التصريحات الإعلامية للمسؤولين الجنوبيين وإبراز علم "دولة الجنوب" في الأنشطة العامة. ويرى مراقبون أنه، وبعد مرور عامين على اندلاع الحرب، تشكّل واقع جديد لقوى النفوذ والسيطرة على الأرض يصعب التعامل معه بعد أي تسوية سياسية تسعى لإعادة الوضع إلى ما قبل 26 مارس/ آذار 2015، فالقوات المسلحة التي تتشكل مناطقياً جنوب البلاد، ستشكل عبئاً كبيراً أمام المضي نحو قيام الدولة الاتحادية التي أقرها مؤتمر الحوار الوطني. وعلى الجانب الآخر، يبدو الشارع الجنوبي منقسماً تجاه تجربة حكم "الحراك" لعدد من المحافظات الجنوبية، بين مؤيد لهذه التجربة ويرى فيها كسباً لود التحالف العربي ودول الإقليم، وبين معارض يعتقد أن الانخراط في منظومة حكم الشرعية، تحت مسمى الجمهورية اليمنية، يعد تمييعاً لمطلب الانفصال.
وبعيداً عن الموقف الدولي الذي يشدد على وحدة اليمن واستقراره، يرى سياسيون أن "الحراك الجنوبي" حقق مكاسب عدة من تجربته هذه، من خلال استيعاب الكثير من كوادره في مؤسسات الدولة والجيش، الأمر الذي يجعل منه قوة يصعب استبعادها. وتحدث سياسيون، لـ"العربي الجديد"، عن أن الحراك الجنوبي فرض نفسه كأمر واقع في محافظات الجنوب، ويجب التعامل معه وفق هذا المنظور في أي تسوية مقبلة. ويقول المحلل السياسي، فؤاد مسعد، إن "تجربة الحراك لا تزال في طور البداية والتشكّل، ومع ذلك برزت بعض المكاسب التي حققها الحراك من خلال استيعاب عدد من كوادره في أجهزة الدولة، بالإضافة إلى انخراط الآلاف من منتسبيه في المقاومة ضمن قوات الجيش الوطني والأمن". ويضيف مسعد، في حديثه لـ"العربي الجديد"، إن من ضمن المكاسب التي حققها "الحراك" توسيع دائرة نشاطه وامتلاك إمكانيات لم تكن متوفرة لديه في السابق.
وفي ما يتعلق بأداء "الحراك الجنوبي" في المؤسسات الحكومية، يشير مسعد إلى أنه يواجه تحديات كبيرة، نتيجة تدمير الحرب للبنية التحتية في المحافظات المحررة. ويعتقد أن تعيين قيادات الحراك الجنوبي في إدارة المحافظات الجنوبية جزء منه مرتبط بالواقع الذي أفرزته الحرب، وفي جزء آخر لامتصاص غضب الشارع، وهو ما يلاحظ في العاصمة المؤقتة عدن وغيرها من المحافظات. وعن مستقبل مشاركة "الحراك" في الحكم، يرى مسعد أن بقاءه مرهون بالتوافق على تسوية سياسية، فهي ستكون المرجع الذي يفرض على الجميع الالتزام به، ولا شك في أن أي تسوية ستأخذ بالاعتبار حجم الحراك الجنوبي وضرورة مشاركته.
من جهته، يرى المحلل السياسي، جمال بن غانم، أن إعطاء قيادات في الحراك الجنوبي الفرصة لتولي إدارة شؤون بعض محافظات الجنوب يأتي في إطار سياسة هادي لاحتواء "الحراك" وإخضاعه لشرعيته. ويضيف بن غانم، لـ"العربي الجديد"، إن هذا التوجه من قبل هادي كان بمثابة فرصة لبعض قيادات "الحراك" للسيطرة على الأرض، وفرض واقع جديد، ولعل هذا ما حصل فعلاً، خصوصاً في محافظة عدن، إذ إن قيادات المحافظة ليست على انسجام تام مع قيادات الشرعية، وتحديداً رئاسة الوزراء، وأحياناً رئاسة الجمهورية. ويشير إلى أن القيادات "الحراكية" نجحت إلى حد كبير في فرض الأمن، بحكم الخلفية العسكرية لمعظمها، لكنها فشلت في تحقيق أدنى استقرار في الخدمات الأساسية، لكن من غير المنطقي أن تُحمّل هذه القيادات الفشل في جانب الخدمات، فمعظم المحافظات التي تسيطر الشرعية عليها تعاني من احتياجات حادة في الخدمات الأساسية للمواطن، وهذه أهم نقطة كمعيار لفشل الحكومة الشرعية في إدارة المناطق المحررة.
وفي سياق المكاسب السياسية، يلفت بن غانم إلى أن القيادات المحسوبة على الحراك الجنوبي استطاعت أن تحقق تقدماً كبيراً في مجال الأمن، وبالتالي أصبحت تمتلك قوة على الأرض لا يمكن لأي تسوية سياسية أن تتجاهلها. وبالرغم من ذلك، يشير المحلل السياسي إلى أن الملف اليمني، بكل تعقيداته، أصبح ملفاً عربياً متشعباً، ومن الصعب جداً القول إن فريقاً ما يستطيع أن يفرض شروطه في أي تسوية مقبلة، مع الأخذ في الاعتبار أن الحراك الجنوبي اليوم أصبح ثقلاً سياسياً مسيطراً على الأرض، وهو مختلف تماماً عما كان علية الحال قبل إعطاء هذه القيادات "الحراكية" الفرصة لأخذ زمام الأمور في بعض المحافظات الجنوبية.