بعد تمرير القطوع اللبناني ـ اللبناني، على خلفية انعقاد القمة الاقتصادية العربية والتنموية، نهاية الأسبوع الماضي في بيروت، اتجهت الأنظار مجدداً إلى قضية تشكيل الحكومة اللبنانية، المعلقة منذ إجراء الانتخابات النيابية في 6 مايو/أيار الماضي. وشهد اليومان الماضيان زخماً غير مسبوق، منذ فشل التشكيل منتصف الشهر الماضي، على وقع مؤشرات تنذر بالانهيار المالي، خصوصاً ما أعلنت عنه مؤسسة التصنيف الائتماني "موديز"، التي خفضت تصنيف لبنان من "B-" مع رؤية سلبية إلى "caa1"، وذلك للمرة الأولى منذ عام 1992، أي بعد انتهاء الحرب اللبنانية (1975 ـ 1990)، أسوة بالعراق والغابون وزامبيا.
وعلى الرغم من خطورة ما خرجت به "موديز"، في خبرها الذي نزل كالصاعقة على الطبقة السياسية اللبنانية، وحضر في اتصالاتها ومحادثاتها بقوة، إلا أن الأخطر هو إشارة المؤسسة بوضوح إلى "تأخّر تشكيل حكومة قادرة على وضع السياسات الإصلاحية العاجلة للسيطرة على الدين العام وكلفته ولتحريك عجلة النمو الاقتصادي". ويبدو أن ما خرجت به "موديز" عكَس التصريحات التي تخرج بين فترة وأخرى لطمأنة الجميع إلى "استقرار الوضع النقدي"، تحديداً مع إشارة المؤسسة أيضاً إلى "ازدياد مخاطر السيولة والاستقرار المالي، نتيجة غياب الحل الجدّي لخفض العجز في الموازنة وتأمين فائض مرتفع في الميزان الأولي، في سياق تقلّص التحويلات وتراجع نمو الودائع المصرفية بشكل ملحوظ، وهو ما أدّى إلى هذا الخفض".
عموماً ليست هذه المرة الأولى التي تخرج فيها المؤسسة بمثل هذه النظرة، خصوصاً أنه سبقها تحذيرات في شهر ديسمبر/كانون الأول الماضي في تقريرها الدوري، الذي غيّر الرؤية المستقبلية من "مستقرة" إلى "سلبية". وأشار أيضاً في حينه إلى "ضرورة تشكيل حكومة في المدى العاجل، وتنفيذ الإصلاحات التي من شأنها ضبط أوضاع المالية العامة والاستحصال على القروض الدولية من مؤتمر سيدر".
"كل هذا لم يجد آذاناً صاغية، وباتت البلاد في مرحلة دقيقة، تفرض تأليف حكومة فوراً"، حسبما تقول مصادر مطلعة على مفاوضات التشكيل لـ"العربي الجديد"، و"ضرورة الابتعاد عن الحلول المبتورة مثل انعقاد جلسة حكومية للضرورة، وإقرار حكومة تصريف الأعمال للموازنة العامة، لأن إقرار هذه الموازنة مع استمرار الأزمة الحكومية، لا يعني استتباب الوضع الاقتصادي، خصوصاً أن عودة لبنان من وجهة النظر الدولية إلى الساحة الدولية، باتت مرتبطة بإصلاحات إدارية ومحاربة الفساد وضبط الأنفاق. وهي تحذيرات سمعها لبنان كثيراً ليس خلال الأيام الماضية بل خلال السنوات الأخيرة، وهو ما فرض نفسه بقوة في مؤتمر سيدر (المنعقد في أبريل/نيسان الماضي) وفي الشروط التي وضعها المجتمع الدولي لإقراض لبنان مجدداً".
وتضيف المصادر أن "الإسراع في تأليف حكومة، والعمل على انتشال لبنان من أزمته المالية والاقتصادية، بات يسارع الزمن، خصوصاً أن المنطقة تغلي استناداً إلى ما يحصل بين إسرائيل وإيران فوق الأراضي السورية، وآخرها الغارات التي استهدفت فيلق القدس. وهو ما يعني ضرورة تحصين الساحة الداخلية فوراً، لأن أي تطورات تعني انهيار ما تبقى من دولة في لبنان".
وتشير المصادر إلى أن "لبنان تبلّغ بوضوح خلال زيارة مساعد وزير الخارجية الأميركية للشؤون السياسية ديفيد هيل الأخيرة إلى لبنان، تحذيرات من المرحلة المقبلة التي ستشهد تصعيداً أميركياً ضد إيران وتالياً ضد حزب الله. وليس أدلّ على ذلك مؤتمر وارسو المقرر يومي 13 و14 فبراير/شباط المقبل لمواجهة النفوذ الإيراني في المنطقة، على الرغم من تمسك الإدارة الأميركية بالدولة اللبنانية والجيش اللبناني، والذي تكرر التأكيد عليه خلال زيارة قائد القيادة المركزية الأميركية الجنرال جوزف فوتيل إلى بيروت وخلال اللقاء مع الرئيس المكلف سعد الحريري".
وأيضاً في سياق الدلالات، تعيد المصادر التذكير بـ"غياب بعض الدول العربية عن لبنان، خلال القمة العربية الاقتصادية، مع الخشية من تجميد زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، التي تأجلت مراراً، والمتوقعة أن تحصل في فبراير المقبل".
ووسط كل ذلك، استأنف الحريري إطلاق مساعيه لتأليف الحكومة، على الرغم من تسليم البعض بأن الأفق مسدود. وهو ما برز في تصريحات مدير الأمن العام اللواء عباس إبراهيم الأخيرة، عندما قال إنه "لم يعد معنيا بهذه المساعي". لكن رئيس مجلس النواب نبيه بري، الذي استقبل الحريري يوم الثلاثاء الماضي، أكد أن "الجو ناشط ومرتجى، والحريري بصدد تكثيف المساعي ويأمل أنّ ترى الحكومة العتيدة النور خلال أسبوع لا بل أقل"، مشدّداً على أنّ "لا مشكل على الإطلاق بيننا وبين الحريري ككتلة التنمية والتحرير (حركة أمل) وكتلة الوفاء للمقاومة (حزب الله)، وعلى الحريري أن يقوم بجولة جديدة لو اقتضى الأمر"، وذلك في تأكيد لتسهيل ما من "الثنائي الشيعي" للحريري.
وبانتظار السعاة على خط التأليف، تنتظر الساحة السياسية ما في جعبة الحريري ووزير الخارجية جبران باسيل، والتشعّب في بحث الطروحات الممكنة، التي يمكنها أن تفرج عن الحكومة، وتحقق توازناً بين مطالب الجميع، لجهة حصول "التيار الوطني الحر" على الثلث المعطل، أي 11 وزيراً من أصل 30، وتمثيل "اللقاء التشاوري" أي النواب السنّة المحسوبين على "حزب الله"، وهي العقدة الأخيرة الجدية التي أخرت التأليف. وعلم أن الحريري ألغى زيارة كانت مقررة إلى سويسرا للمشاركة في منتدى دافوس، خصوصاً أن ما سيسمعه هناك لن يختلف عما يصل إلى بيروت، من تحذيرات دولية، لجهة المخاوف الاقتصادية، مفضلاً البقاء في بيروت، وإطلاق محاولة جديدة للإفراج عن الحكومة.
والأكيد أيضاً أن لقاء الحريري ــ باسيل الأخير منذ أيام، لم يقدّم جديداً، خصوصاً أن ما طُرح خلاله يحتاج إلى جس نبض الأفرقاء الآخرين، بما أن كل الطروحات تحاول التوفيق بين مطالب الجميع، وآخرها ما أُشيع عن قبول الحريري بصيغة 32 وزيراً، شرط أن تنال الطائفة السنية 7 وزراء مقابل 6 للطائفة الشيعية. وهو ما سقط فوراً نتيجة تحفظ "الثنائي الشيعي" عليه باعتباره "يشكل خرقاً دستورياً وخللاً على صعيد الميثاق الوطني"، على الرغم من أن الحريري استند في طرحه إلى سابقة حكومة الرئيس نجيب ميقاتي التي تضمنت 7 وزراء سنة و5 وزراء شيعة، عندما تنازلت حركة أمل عن مقعد حكومي لصالح تمثيل فيصل كرامي في الحكومة.