جاء خبر اختفاء الكاتب والصحافي السعودي جمال خاشقجي في إسطنبول مثل مزحة غير قابلة للتصديق. إسطنبول مدينة آمنة رغم أنها شاسعة ومترامية الأطراف، ويعيش على أرضها أكثر من 15 مليون نسمة، ولم تشهد حادثاً يعكر أمنها منذ العملية الإرهابية التي ارتكبها داعشي في مرقص ليلي في حفل رأس السنة 2016، ولم يطل الوقت حتى تمكنت الأجهزة الأمنية التركية من إلقاء القبض على الجاني، الأمر الذي أشاع شعوراً لدى قاصدي هذه المدينة بأن الجهات المعنية تقدّر أن الأمن هو العملة الصعبة في مدينة على هذا القدر من الجمال والتنوع والغنى الثقافي والسياحي. وتدرك الدولة التركية أن لمدينة إسطنبول مكانة روحية وثقافية واقتصادية لدى ملايين الأجانب الذين يملؤون فنادقها وأسواقها وشوارعها، وهم يذهبون إليها بغاية الشوق ويعودون منها بغاية الرضى، ومن هؤلاء الصحافي والكاتب السعودي المتميز جمال خاشقجي، الذي يوحي اسمه أن لديه جذوراً تركية شدته إلى حب إسطنبول والتردد عليها حتى قرر أن يخطب إحدى بناتها (خديجة)، التي جاء من أجل إتمام شؤون العلاقة معها، ولكنه اختفى ظهر يوم الثلاثاء بعد أن دخل القنصلية السعودية في منطقة بشكتاش.
جمال خاشقجي رجل طويل وذو صوت جهوري في زيارة حب إلى إسطنبول، المدينة ذات الفضاء المفتوح من السماء إلى البحر. كيف يمكن أن يختفي شخص بهذه المواصفات في مدينة لديها هذه القدر من الصفات؟
جاء في أول الأخبار أن جمال ذهب إلى القنصلية السعودية في إسطنبول الواقعة في منطقة مكتظة من أجل تصديق أوراق رسمية. وهناك من قال إن الأوراق تتعلق بإنجاز الزواج مع خديجة. ودخل إلى القنصلية في الواحدة ظهراً، ولم يخرج بعد ذلك، وحين تأخر اتصلت خديجة بوسائل الإعلام لتخبرها بأن خاشقجي لم يخرج من القنصلية. وهنا بدأت الشكوك والأسئلة التي استمرت حتى صباح اليوم الأربعاء من دون أن تصدر السلطات التركية بياناً رسمياً عن القضية، في حين تسربت معلومات غير رسمية تقول إنه خرج من القنصلية واختفى بعد ذلك.
يبدو أن جمال ذهب إلى القنصلية وهو مطمئن أنه سينجز مهمته ويخرج من هناك، ولكن يبدو أن رجال ولي العهد، محمد بن سلمان، كانوا ينتظرونه، فهو بالنسبة لهم صيد ثمين، رغم أن خاشقجي، الذي غادر المملكة وقرر الإقامة في أميركا، ليس معارضاً بالمعنى التقليدي للمعارض السياسي المتحزب عموماً، بل هو أقرب إلى المثقف النقدي صاحب الرأي الذي تعتز به الدول الحضارية، وتفتح له المجال، بل تعتبره رصيداً رمزياً، على عكس المثقفين المزيفين المنافقين والمتملقين كتاب التقارير، والذين لا يجيدون سوى دور كلاب حراسة النظام الأمني الفاسد.
لو كان خاشقجي مذنباً لما قصد القنصلية، بل لكان ابتعد عنها. ذهب إلى هناك وهو يعرف أنه لم يرتكب جريمة بحق بلاده تستوجب احتجازه، وكل ما قاله خارج السعودية هو من باب حرية الرأي، وهو مصدق أن عهد ولي العهد السعودي عهد جديد قوامه الانفتاح وحرية الرأي، رغم حملة الاعتقالات الواسعة التي حصلت في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي لأمراء ورجال أعمال ورئيس وزراء لبنان سعد الحريري، وتحويل فندق الريتز كارلتون إلى سجن، وما تلا ذلك من اعتقالات واسعة شملت دعاةً وكتابَ رأيٍ.
وفي موقعة الريتز، كشف بن سلمان عن وجهَين، واحد للترفيه، والثاني للترهيب، وصار واضحاً أن هذا هو منهجه في الحكم، ولكن لم يحسب أحد من المراقبين أن تكميم الأفواه سوف يصل إلى هذا الحد، ولا مبرر له سوى الخوف من المعارضة الداخلية وعدم الثقة بالنفس.
وإذا تأكد ضلوع السعودية، فإن عملية اختطاف خاشقجي في إسطنبول تعد حدثاً خطيراً، ليس فقط في سجل محمد بن سلمان، بل في العلاقات بين الدول أيضاً، وهي تشكل جريمة متعددة الأطراف. أول جانب فيها التصرف على نحو بلطجي على أرض دولة مستقلة، من خلال تهديد حياة زائر لهذه الدولة التي تتحمل مسؤولية الحفاظ على حياته.
والجانب الثاني مطاردة كاتب ومواطن مارس حق التعبير بالكلمة، واختطافه من بلاد أخرى جريمة ضد الإنسانية واعتداء على القانون الدولي.
خاشقجي صحافي وكاتب صاحب رأي، واختطافه يضع مسؤولية على الحكومات والدول الديمقراطية ومؤسسات حقوق الإنسان والصحافيين، وهي مدعوة إلى التحرك بسرعة للإفراج عنه ومحاسبة المسؤولين عن اختطافه، وفي المقام الأول الولايات المتحدة التي كان خاشقجي يقيم على أراضيها قبل أن يذهب إلى إسطنبول.