شهوة إصدار القرارات الجمهورية تسيطر على هادي الذي لا يتوقف عن إعلانها باستمرار. البعض منها يأتي بشكل معلن، والبعض الآخر يُكتشف مصادفة مثل القرارات الخاصة بأبناء كبار رجال الحكومة من وزراء وسفراء أيضاً.
وبقدر ما يطرح الحديث عن اتفاق يجري الإعداد له في جدة بين الحكومة الشرعية و"المجلس الانتقالي الجنوبي" المدعوم إماراتياً، لتقاسم السلطة إشكالية تعرّض سلطات هادي لتقليص إضافي، إذ تظهر البنود المسرّبة، إن صحت، أنه سيتمتع بحق تعيين رئيس الحكومة وعدد من الوزارات السيادية لا جميعها، بقدر ما يثير تساؤلات حول ما إذا كانت المرحلة المقبلة ستشهد فصلاً جديداً من إغراق الإدارات العامة بتعيينات جديدة، أو تكون محطة فاصلة لبدء ضبط هذا التمادي، في بلد يشهد حرباً منذ سنوات، وتتقلص سلطة الشرعية فيه باستمرار. مع الإشارة إلى أن التسريبات أظهرت وجود بند في الاتفاق يتحدث عن "إيقاف جميع الملحقين في السفارات، وإعادة هيكلة الوظائف الدبلوماسية والوكلاء في الوزارات الحكومية".
قبل ظهور قصة المفاوضات بين الشرعية و"الانتقالي"، كان هادي قد أصدر، في 19 سبتمبر/أيلول الماضي، قرارات قضت بتعيين محمد عبد الله محمد الحضرمي وزيراً للخارجية، بعد شغور المنصب منذ يونيو/حزيران الماضي عقب استقالة خالد اليماني، فضلاً عن اختيار سالم صالح سالم بن بريك كوزير للمالية، وذلك بعدما عيّن سلفه أحمد عبيد الفضلي كمحافظ للبنك المركزي اليمني ليحلّ مكان حافظ معياد. صحيح أن هذه التعيينات كانت ضرورية لملء الشواغر، إلا أنها تعيد التركيز على نوعية القرارات التي يقوم هادي بإصدارها وكيفية تدوير الأشخاص في مناصب الدولة.
لكن قد تبدو الإشكالية الأبرز، والأكثر سخرية وإثارة للاستياء في أوساط اليمنيين، في أن الشخصيات التي يقوم هادي بإصدار قرارات بتعيينها لا تقيم أساساً في أماكن سلطة "الشرعية" أو داخل اليمن حتى، إذ يتوزع المعيّنون، تحديداً من فئة وكلاء الوزارات، على عواصم عدد من الدول العربية ويتقاضون رواتب بآلاف الدولارات وتتخطى بآلاف المرات الحد الأدنى للأجور في اليمن إن توفرت الرواتب أصلاً.
ويحدث هذا الأمر في وقت تفترض جميع المناصب التي يتم استحداثها وتعيين أشخاص فيها وجودهم على الأرض، وفيما المناطق التي يُقال إنها واقعة تحت سلطة الشرعية أو المناطق المُحرّرة تهيمن عليها قوات عسكرية لا تتبع للحكومة، وأخرجت منها الشرعية بقوة السلاح التابع لدولة الإمارات والجماعات التي تدعمها.
ولعل الإشكالية الكبيرة في طريقة إدارة حكم الرئيس هادي هي أنه يقرر عن بُعد، عن طريق السمع من الأخبار التي تنقل إليه، أو عن طريق ما يشاهده على الفضائيات وعناصره التي تظهر عليها للكلام عن أحوال الأزمة اليمنية. حتى إنّ بعض قرارات التعيين صدرت لأشخاص فقط لأنهم ظهروا على الفضائيات يدافعون عن هادي. ولعل ما كتبه السفير اليمني مصطفى نعمان على صفحته الشخصية على موقع "فيسبوك" في شهر سبتمبر/أيلول الماضي، عقب زيارته للعاصمة السعودية الرياض، يلخص جزءاً مما يجري. إذ كتب قائلاً "قضيت أياماً في الرياض التقيت فيها كثيراً من اليمنيين وسمعت من أشخاص لا أشك لحظة في مصداقيتهم عن الأسلوب الذي يدار به مكتب الرئاسة. ما صدمني ليس ما سمعته عن العشوائية و"السبهللة" (أي كلام) التي يصف بها الجميع المكتب الذي هو في الحقيقة مكتب "سفري" (دليفري) تصنع فيه كل القرارات والتعيينات والصرفيات، ولكني تيقنت أنّ الرئيس تحت الإقامة الجبرية من دائرته الضيقة التي لا تتعدى مدير المكتب وسكرتيره الخاص ونجليه! هو ممنوع من التصرف بدون إذن هؤلاء الأربعة، ولا أحد يصل إليه عداهم. وضع كهذا لا غرابة معه أن تبحث الشرعية الرخوة عن عاصمة ثالثة تأوي إليها!".
في السياق، يتحدث الباحث اليمني المقيم في فرنسا مصطفى الجبزي لـ"العربي الجديد"، عن مسألة التدرج التي أوصلت إلى هذا الوضع حتى قبل تولي هادي الحكم، وتمّ على أساسها "اختزال الإدارة العامة في مؤسسة الرئاسة، والتي حافظت على فاعلية أكبر قياساً برئاسة الوزراء، بسبب تعاظم دور الرئيس الراحل علي عبد الله صالح نتيجة سنوات حكمه الطويلة، وضعف المعارضة واهتراء مؤسسات الدولة وسلطاتها".
ويشير الجبزي، الذي عمل لفترة من الزمن في السفارة اليمنية في باريس، إلى أنّ "المبادرة الخليجية ضاعفت من هيمنة الرئاسة، إذ منحت الرئيس صلاحيات فوق دستورية نتيجة للمناخ التوافقي". وبرأي الباحث اليمني، فإنّ "الرئاسة في عهد هادي تسيء استخدام هذا الصلاحيات عبر سياسة ترضيات وتسوية للمشهد السياسي من ناحية، ومن ناحية ثانية نتيجة محاولة إثباتها، من خلال هذه التعيينات، أنها موجودة ككيان يمثل الجمهورية بعد اختطاف الحوثيين للدولة في صنعاء".
ويلفت إلى أنّ "اغتراب شخص الرئيس، واختزال الرئاسة في مجرد قرار وختم خارج الممارسات الإدارية البروتوكولية أصاب الإدارة العامة في مقتل". ويتوقف عند تداعيات ما يجري "في ظلّ غياب أي رقابة رسمية على ما يحصل، بعد أن كان بوسع الناس رفع قضايا ضدّ قرارات الرئاسة لمخالفتها القانون، لا سيما بعد أن تعطل القضاء الإداري كلياً".
ويوضح الجبزي أنّ "مؤسسة الرئاسة ومعها الحكومة، لم تلتزما بأدنى آليات العمل القانوني حتى من خلال نشر القرارات الرسمية عبر الصحيفة الرسمية". ويضيف "تتقافز أرقام القرارات، وما يظهر منها يندرج في بند المماحكات بين الأجنحة الفاسدة". ومن وجهة نظره، فإنّ "محدودية طاقم الرئيس هادي، منح فريقه صلاحيات تقود بالضرورة إلى الفساد والتغول".
من جهته، يقول الصحافي في "مؤسسة الثورة" في صنعاء، عبد القادر سعد، في حديث لـ"العربي الجديد"، إنّ "هذه سلطة لا شأن لها بالقرارات الكبيرة". وبرأيه، فإنّه "ليس هادي من يختار رئيس الحكومة ولا وزير الخارجية أو حتى محافظ البنك المركزي، هو متفرغ فقط لمتابعة نشرات الأخبار على الفضائيات وتتبّع صفحات فيسبوك ومواقع التواصل الاجتماعي، في حين تبقى القرارات الكُبرى للسلطات السعودية والإماراتية التي تنطق بها نيابة عن هادي لكنها تُعلن باسمه". ويلفت إلى أنه في سياق مواز، فإنّ "ما يجري يبرز فكرة انهيار المؤسسة الرئاسية"، لافتاً إلى أنّ "صناعة القرار الداخلي متهاوية منذ زمن إعلان الفترة الانتقالية عام 2011، ومجيء سلطة عبد ربه منصور هادي"، معتبراً أنّ تلك السلطة "سمحت لآخرين، منذ البداية، بالسيطرة على القرار الرئاسي".
وفي الإطار ذاته، يتحدث رئيس تحرير صحيفة "النداء" (المتوقفة حالياً عن الصدور)، سامي غالب، لـ"العربي الجديد"، عن خطورة التعيينات التي قام بها الرئيس اليمني في الإدارة العامة والدولة ككل، قائلاً إنّ التعيينات بالطريقة التي تمت هي "أعظم إهانة للشعب اليمني بعد ثورة فبراير 2011". وبالنسبة إليه، فإنّ "ما حصل هو أنّ هادي ومن صعد معه إلى السلطة الانتقالية بدوا كمن يخرج لسانه هازئاً بمن وثق فيهم".
ويذكّر غالب بأنّ "أغلبية من خرجوا إلى ساحات الثورة والتغيير في اليمن عام 2011، كان مطلب المواطنة المتساوية وسيادة القانون في أعينهم. لكن هادي وقادة أحزاب اللقاء المشترك (المعارضة) غدروا بهم". ويوضح أنّ "سياسة المحاصصة الحزبية والجهوية في الخدمتين المدنية والعسكرية أدّت إلى تفكيك الكتلة الصلبة من شباب الثورة، وتفاقم حالة الإحباط بين الناس العاديين، ما وفّر هوامش كبيرة للفاعلين الجدد الذين يتحركون خارج سلطة التوافق، مطالبين بدولة داخل الدولة (في إشارة للحوثيين) أو دولة خارج الدولة (في إشارة إلى فصائل من الحراك الجنوبي)". وفي المحصلة، يرى غالب أنّ "هادي، بواقع الأمر، استهان بتضحيات اليمنيين وقارب مؤسسات الدولة وإرثها بخفة واستهتار، ما أدى إلى تفكيك الدولة، قبل المجتمع، ورهن القرار الوطني اليمني للفاعلين الإقليميين".