مصالحة العكرمي والسبسي: خلط حسابات وتمهيد للمّ شمل "النداء"

02 يونيو 2016
السبسي يسعى لإخراج "نداء تونس" من أزمته(فتحي بلعيد/فرانس برس)
+ الخط -
تثير العودة المُحتملة للوزير التونسي السابق، الأزهر العكرمي، إلى حزب "نداء تونس"، حالة من الإرباك السياسي لأكثر من طرف في الساحة التونسية، بدءاً برئيس الجمهورية التونسية، مؤسس الحزب، الباجي قائد السبسي، ونجله حافظ، وبقية المنشقين، الذين ساندوا العكرمي في رفضه لمجريات الأمور في الحزب منذ أكثر من عام، ووصولاً إلى أغلب من انضموا للحزب الجديد المنشق عن "النداء"، "مشروع تونس"، الذي يتزعمه محسن مرزوق.

ملامح المصالحة برزت في نهاية الأسبوع الماضي، حين تم عقد لقاء مفاجئ بين العكرمي والسبسي، في قصر قرطاج، تطرّق إلى الوضع العام في البلاد على جميع الأصعدة، والأزمة التي يمر بها حزب "نداء تونس". واكتفى العكرمي، إثر اللقاء، بتصريح مقتضب أكد فيه أنه "تم الاتفاق على العمل بشكل جدي لتجاوز الصعوبات من أجل إيجاد مخرج لحل أزمة نداء تونس"، وأن رئيس الجمهورية "عبّر عن تفهّمه لبعض المقترحات المطروحة والمتعلقة بأزمة هذا الحزب".

فاجأ اللقاء كل المتابعين لحزب "نداء تونس" ولأزمته، التي فجّرها العكرمي نفسه، منذ عام تقريباً، عندما بدأ أولاً بالاستقالة من الحكومة، ثم تلتها الحرب التي شنّها على السبسي ونجله حافظ، متهماً الأب بالسعي لتوريث الابن، ومتهماً إدارة القصر الرئاسي بالعمل لصالح الحزب.

ويكفي استعراض بعض تصريحات العكرمي السابقة للوقوف على عمق الأزمة التي انتهت باستقالة عدد كبير من كوادر الحزب وقواعده، وانتهت بانفجاره إلى حزبين وكتلتين في البرلمان. وأكد العكرمي مراراً "أنه تم السطو على الحزب بقوة الدولة والمصالح الشخصية والمطامع، وأن الاستقالة كانت في الحقيقة مسألة افتراضية، لأن ما حدث هو طردنا من الحزب"، كما ورد في أحد تصريحاته. ولم ينف العكرمي كلاماً سابقاً قال فيه "إن السبسي شخص ينكر الديمقراطية، وهذه ليست شتيمة بل واقع"، وأن "ما يحدث داخل النداء، هو محاولة انقلاب يقودها حافظ قائد السبسي وجماعته من أجل الاستيلاء على الحزب"، على حد وصفه.
وعلى الرغم من أن العكرمي كان رأس الحربة في الخلاف الذي استغله محسن مرزوق للانسلاخ عن الحزب وتأسيس مشروعه الجديد، فإن العكرمي لم يلتحق بالحزب الثاني، معتبراً أنه مشروع شخصي لمرزوق، ومؤكداً أنه لم يستقل رسمياً من "النداء".

صحيح أن إحدى سمات العمل السياسي تتمثل في أنه لا صداقات ولا عداوات في السياسة، إلا أن لقاء السبسي والعكرمي كان غريباً بالنظر الى ما تبادلاه من تصريحات قوية وقاسية تجاوزت كل الحدود، ولم تترك نافذة صغيرة، في الظاهر، للصلح. وعلى الرغم من ذلك، حصل ما كان يشبه المستحيل بالنسبة لكثيرين، وعاد العكرمي يتحدث من جديد عن إنقاذ الحزب، وعاد السبسي لاستقبال من اتهمه بالتوريث، وكأن شيئاً لم يكن.


والسؤال يتمثل في معرفة الأسباب العميقة التي عادت بالعكرمي إلى قصر قرطاج، وإلى الحزب. كما لا بد من محاولة استقراء نتائج ذلك وتداعياته، على الحزب وعلى المشهد السياسي عموماً.
وفي السياق، يبرز عاملان رئيسيان وراء هذا الحدث. أولهما يتمثل باستقالة المتحدث الإعلامي السابق باسم حزب "نداء تونس"، رضا بلحاج، من رئاسة الهيئة السياسية للحزب، وإقالته من منصبه كمدير للديوان الرئاسي، على الرغم من نفي ذلك رسمياً. وكان العكرمي من أشد منتقدي بلحاج، ويعتبره مع كثيرين سبباً في أزمة "النداء".

وإذا كان هذا سبب العكرمي المباشر، فإن سبب قبول السبسي لهذا الخيار الصعب، يبدو أعمق من ذلك، ولعلّه يعود مباشرة إلى ما عاينه الرئيس نفسه في افتتاح مؤتمر حركة "النهضة".
وعلى الرغم من كل الكلام المعسول الذي قاله وسمعه السبسي في مؤتمر "النهضة"، إلا أن المطلعين على عمق العلاقة بين الطرفين، يعرفون مدى حدة المنافسة بينهما. ويبدو أن السبسي تلقّف فكرة اللقاء التي طرحها عليه بعض الوسطاء، لتحقيق هدفين رئيسيين: أولهما يتمثل في محاولة استرجاع بعض الكوادر الهامة، التي غادرت الحزب، والثاني توجيه ضربة لحزب رئيس الديوان الرئاسي الأسبق، مدير حملته الرئاسية، محسن مرزوق، وإقناع المترددين بالعودة إلى حاضنة الحزب، وإسقاط كل الذرائع والاتهامات حول التوريث وحول سيطرة حافظ على الحزب.

ويبدو أن نجاح مؤتمر "النهضة" سيسرّع من وتيرة الأحداث والتحالفات السياسية في الساحة التونسية، استعداداً لاستحقاق الانتخابات البلدية في شهر مارس/ آذار 2017. غير أن عودة العكرمي لحزب "النداء" لن تكون انتصاراً كاملاً. ذلك أن كثيرين من كوادر الحزب يرفضون هذه العودة، وربما سيغادرونه إنْ حصلت. مثل أنصار بلحاج أولاً، أو حتى بعض القيادات الدستورية التي ظنّت أنها تخلصت من بقية العائلات السياسية القريبة أو المنتمية إلى اليسار، وسلكت أمامها طريق التصرف في الحزب بحرية أكبر، وعقد تحالفات سياسية ترى أنها أمر طبيعي، خصوصاً مع "النهضة".

ولكن الذين يعرفون السبسي جيداً، يدركون أنه سياسي متمرس، وربما سيستفيد من هذه الأجواء التي أثارها لقاء العكرمي. في المقابل، يدرك القريبون من العكرمي أيضاً، أنه شخصية سياسية ذكية جداً، نجح في أغلب المبادرات التي بدأها، ووصل بها إلى مبتغاه، وهو بالتأكيد من أكبر العارفين بحنكة السبسي ودهائه السياسي، ويعرف جيداً أنه لن ينسى بسهولة كل الجراح التي حصلت بإعلان العصيان الذي قاده العكرمي، وأدى إلى أزمة "النداء"، علماً بأنها أزمة جوهرية وحقيقية، ولم يكن تصرف العكرمي أحد أسبابها، بل كان مجرد القشة التي قادت إلى النتيجة المنطقية لحزب هجين، وتيارات مختلفة، ومصالح متعددة، ومطامح شخصية.