وكانت مصر قد تكبّدت خسارة إحدى قضايا التحكيم التي رفعتها عليها شركة "كهرباء إسرائيل" بقيمة 1.7 مليار دولار بسبب فشلها في حماية خط تصدير الغاز وتعرّضه للتخريب والإحراق 13 مرة منذ فبراير/شباط 2011، حتى توقّف تصدير الغاز لإسرائيل نهائياً في مايو/أيار 2012، علماً بأن جماعة "أنصار بيت المقدس"، التي تحوّلت منذ عامين إلى "داعش سيناء" بعد مبايعتها التنظيم التكفيري، كانت قد أعلنت مسؤوليتها عن تخريب الخط مرات عدة.
وقالت المصادر الحكومية لـ"العربي الجديد" إن "التنسيق العسكري والأمني بين مصر وإسرائيل ليس سراً، وهو في أفضل حالاته حالياً، وبعدما كان التنسيق الاستخباراتي بين البلدين يتم عبر قنوات أميركية في غالب الأحيان، أصبح يجري بصورة مباشرة بمعزل عن واشنطن، ودائرة (الرئيس المصري) عبد الفتاح السيسي المتحكمة بشكل مباشر في الاستخبارات الحربية والعامة، تثق في تقديرات الاستخبارات الإسرائيلية بشأن مجابهة الجماعات "التكفيرية" في سيناء. كما أن هناك تعاوناً عسكرياً في التمشيط والتأمين والتبادل المعلوماتي على الأقل، حال التسليم بنفي الجيش المصري مشاركة الجيش الإسرائيلي فعلياً في الهجوم الجوي على معسكرات داعش".
وكانت صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية قد كشفت مطلع فبراير/شباط الجاري، نقلاً عن مسؤولين أميركيين (لم تسمهم)، أن الطائرات الإسرائيلية شنّت نحو 100 طلعة جوية في سيناء المصرية، بهدف استهداف التنظيم والموالين له، بالتنسيق مع النظام المصري، وبموافقة من السيسي، بعد فشل الجيش المصري في وقف هجمات المسلحين المتكررة.
وأوضحت المصادر أن "الجانبين المصري والإسرائيلي تحدّثا عن وجود طريقين لنقل الغاز الإسرائيلي لنقطتي الإسالة الرئيسيتين في إدكو ودمياط، شمال دلتا النيل"؛ الطريق الأول هو الخط القائم لتصدير الغاز المصري لإسرائيل، والذي يتطلب عملية طويلة من إعادة التأهيل الفني، بإصلاح الأضرار التي أصابت الخط على مدار السنوات الماضية ورفع الكفاءة، وكذلك بجعله ملائماً للاستيراد بدلاً من التصدير بتعديل مسار المضخات، وهو ما يستدعي تشديد عملية التأمين بواسطة الجيش المصري طوال فترة إعادة التأهيل، فضلاً عن استمرارها مستقبلاً. أما الطريق الثاني والذي مازال قيد البحث بين مصر وإسرائيل، فهو إنشاء شبكة أنابيب جديدة عبر البحر للربط بين الطرفين وكذلك قبرص، باعتبار أن المسافة المباشرة بين الحقول الإسرائيلية وعلى رأسها حقل "ليفياثان" وبين السواحل المصرية التي ستتم فيها عملية الإسالة، أقل بكثير من المسافة البرية التي تستدعي وجود الأنابيب على أرض سيناء.
وذكرت المصادر أن "عملية إنشاء شبكة أنابيب جديدة قد تكون إفادتها أكبر من الناحية الاقتصادية للدول الثلاث، لا سيما أن اتفاقية تصدير الغاز من قبرص لمصر بغرض الإسالة أيضاً، ستدخل حيز التنفيذ عام 2020 على الأرجح، وهو ما سيستدعي عاجلاً أم آجلاً إنشاء شبكة أنابيب جديدة، لا سيما أن حقول الغاز الخام المملوكة لقبرص متاخمة تماماً للحقول المملوكة لإسرائيل، وعلى رأسها حقل أفروديت، مما يسمح باستخدام أجزاء من الشبكة بصورة موحدة".
وأكدت المصادر أن "حماية هذه الشبكة البحرية ستكون مسؤولية مشتركة بين الدول الثلاث باعتبارها مالكة لها، وخصوصاً مصر وإسرائيل اللتين تمتلكان قوات جوية وبحرية متطورة وقوية بالنسبة لقبرص"، مشيرةً إلى أنّ "القانون الدولي يرتّب مسؤولية الحماية الأمنية لأنابيب الغاز والنفط على الدولة التي تمرّ الأنابيب في أراضيها أو مياهها الإقليمية، لكن في الوقت نفسه لا يوجد ما يمنع أن تتضافر جهود الدول التي تشترك في شبكات الغاز والنفط لتوفير الحماية الأمنية أو العسكرية لها".
تحركات عسكرية إسرائيلية محتملة
ويطرح حديث المصادر إمكانية تحرّك القوات الإسرائيلية في المياه الإقليمية المصرية والقبرصية مستقبلاً، لحماية الشبكة المزمع إنشاؤها، فضلاً عن إمكانية مساعدتها للقوات المصرية، فعلياً أو استخباراتياً، لحماية الخط القائم حالياً، لتلافي المشاكل التي وقعت سابقاً.
وعبّر خبراء في القانون الدولي، وأعضاء في مجلس النواب المصري، عن تخوّفهم من إمكانية قبول السلطات المصرية باشتراك إسرائيل في تأمين خطوط الغاز بحجة حمايتها من أي اعتداءات محتملة، وفق الصفقة المبرمة بين البلدين بقيمة 15 مليار دولار.
ورأى أستاذ القانون الدولي في جامعة القاهرة، أيمن سلامة، في حديث لـ"العربي الجديد" أن هذا الطرح "يمسّ بسيادة الدولة المصرية، ومستبعد للغاية في ضوء المستجدات الراهنة، وجاهزية الجيش المصري لحماية أي مشروعات تُقام على الأراضي المصرية، أو داخل حدود مصر البحرية، خلاف الوضع غير المستقر الذي شهدته البلاد في أعقاب ثورة 25 يناير/ كانون الثاني 2011، وغياب السيطرة الأمنية عن مناطق سيناء".
وأوضح سلامة أن "مبدأ السيادة يُشكّل حائط صدّ أمام حدود القانون الدولي، فالتشريعات المصرية هي المنوطة بتنظيم شؤون الدولة الداخلية التي يعد التدخل فيها أمراً محرماً دولياً بصوره كافة"، مستدركاً بأن "التدخل الخارجي لا يكون مشروعاً، إلا في حالة طلب الدولة نفسها التدخل العسكري أو المدني، بشكل لا يتعارض مع اختصاصاتها السيادية".
في المقابل، لم يستبعد أستاذ القانون الدولي السابق في الجامعة الأميركية بالقاهرة، عبد الله الأشعل، ما ذكرته المصادر الحكومية عن إمكانية السماح للطيران الإسرائيلي بتأمين خطوط الغاز داخل الحدود المصرية، بمباركة من النظام الحاكم، من دون إعلان رسمي، في محاولة من الأخير لاسترضاء دولة الاحتلال، ومن ورائها المجتمع الدولي، باعتبار أن هذا هو الهدف الحقيقي من عقد الصفقة.
وبحسب ما قال الأشعل لـ"العربي الجديد"، فإن الشعب المصري "فقد ثقته في السلطة الحاكمة، بعدما أظهرت انحيازاً فاضحاً لمصالح الكيان الصهيوني، ومشروعه الاستيطاني"، محذراً من تداعيات التوسّع في العلاقات التطبيعية خلال السنوات الأخيرة، وخطورتها على مصالح الأمن القومي المصري، بغض النظر عما يروّج له النظام من أن صفقة توريد الغاز وقعت ما بين شركات خاصة.
إلى ذلك، قال البرلماني المصري، سمير غطاس، إن "مستجدات الأوضاع هي التي ستحدّد مدى قبول مصر بطلب مساعدة إسرائيل في تأمين خطوط الغاز أو عدم قبولها، في حالة تعرّضها لاعتداءات مسلحة عقب تفعيل بنود الصفقة، في ظل نزوح مجموعات من إرهابيي سورية والعراق إلى شمال سيناء، وما يمثلونه من تهديد، ليس على الدولة المصرية فحسب، وإنما على الدول المجاورة لها، ومصالحها الاستراتيجية". وأضاف غطاس لـ"العربي الجديد"، أنه "لا يمكن فصل اتفاق الغاز الأخير عن تفريط مصر في ملكية جزيرتي تيران وصنافير للسعودية، برعاية أميركية، لما لها من مصلحة استراتيجية لإسرائيل"، مستنكراً "استخفاف المسؤولين الحكوميين في مصر بعقول الشعب، وحديثهم المتكرر عن أن الاتفاق بين شركات خاصة، لأنه معلوم للجميع أن اتفاقاً بهذا الحجم لن يحدث إلا بين حكومتي البلدين".
بدوره، قال عضو لجنة الصناعة في البرلمان، محمد بدراوي، في حديث لـ"العربي الجديد" إن "مصر لا يجب أن تكون سمساراً لتمرير الغاز الإسرائيلي إلى أوروبا، أو التعاطي مع صفقة الغاز باللغة الاقتصادية البحتة"، مضيفاً أن "بلاده دفعت ضريبة الدم في حروبها السابقة مع دولة الاحتلال، ولديها ثوابتها الوطنية التي تحتم عليها عدم التعامل مع إسرائيل حالياً كدولة صديقة". وطالب بدراوي، في طلب إحاطة عاجل (أداة نيابية) قدّمه، بشأن استدعاء وزير البترول، طارق الملا، ليمثُل أمام البرلمان، لكشف تفاصيل تلك الصفقة، خصوصاً أنها تتعارض مع ما أعلنه في وقت سابق، عن الاكتشافات الجديدة للغاز الطبيعي في مصر، وآخرها حقل (ظهر) في البحر المتوسط، وتحقيقها بنهاية العام الجاري الاكتفاء الذاتي من الاستهلاك المحلي، وفائضاً للتصدير في المستقبل.
ما يخفيه نظام السيسي يبدأ من تفاصيل ما جرى بين مصر وقبرص وإسرائيل في أواخر عهد مبارك، قبل ثورة 25 يناير، وتحديداً عام 2004، عندما تم ترسيم الحدود البحرية بين مصر وقبرص وتقاسم المياه الاقتصادية بين البلدين بالتساوي، إذ سمحت هذه الاتفاقية لكل من قبرص وإسرائيل بالمسارعة لاستغلال حقول غاز طبيعي عملاقة في مناطق، تؤكد تقارير جغرافية وملاحية مصرية وأميركية أن النقاط الحدودية للدول الثلاث "تتداخل فيها، بما لا يعطي حقّ الملكية المطلقة لأي طرف".
وسارع الكيان الصهيوني، بعدما قام بترسيم منطقته الاقتصادية مع قبرص دون الاعتداد بحق مصر في مراجعة ذلك، إلى إعلان اكتشاف حقل "ليفياثان" العملاق شرق المتوسط (المصدر الرئيسي لتصدير الغاز اليوم إلى مصر)، رغم ابتعاده مسافة 235 كيلومتراً من آخر نقطة ساحلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وهي حيفا، وابتعاده 190 كيلومتراً فقط عن ساحل رأس البر المصرية، بحسب دراسات أجراها الباحثان المصريان خالد عودة ونائل الشافعي.
تنسيق قانوني متطور
وبالتزامن مع التعاون العسكري-الاستخباراتي بين مصر وإسرائيل، يبدو أنّ الطرفين يقتربان من تجاوز أزمة قرار التحكيم الذي غرّم مصر 1.7 مليار دولار، إذ صرّح رئيس الوزراء المصري شريف إسماعيل، الخميس الماضي، بما يؤكد ما نشرته "العربي الجديد" في 21 فبراير/ شباط الجاري، من أن التحرّك الإسرائيلي بعرض تصدير الغاز لمصر، كان يهدف لإغراء مصر بتخفيض الغرامة أو إلغائها بالنسبة لشركة "كهرباء إسرائيل".
وقال إسماعيل، الذي كان سابقاً وزيراً للبترول، في مؤتمر صحافي، إنه يرى اتفاقية استيراد الغاز كجزء من الحل لقضايا التحكيم، مشيراً إلى أن هناك قضية ما زالت قيد الفحص أمام المركز الدولي لتسوية المنازعات الاستثمارية التابع للبنك الدولي، مرفوعة من شركة "أمبال أميركان" المساهمة في شركة غاز شرق المتوسط التي كانت همزة الوصل بين مصر وإسرائيل في عقد التصدير القديم، هذا إلى جانب القضية التي ربحتها شركة "كهرباء إسرائيل".
وقال مصدر دبلوماسي مصري متخصص في المنازعات القانونية لـ"العربي الجديد" إن "مصر وإسرائيل بصدد توقيع اتفاق لإسقاط الغرامة المحكوم بها على مصر من جهة، والتعهّد المشترك بعدم اللجوء للتحكيم الدولي حال حدوث أي ضرر يهدد اتفاق الاستيراد الجديد، وأن يعمل الطرفان على حلّ المشاكل العالقة بالطرق الودية، وأنه في حال رغبة أي طرف في اللجوء للتحكيم، فيجب أولاً أن يتم تشكيل لجنة مشتركة للنظر في الحلول المقترحة، ثمّ الاستعانة بمحكّمين قانونيين من مراكز دولية، دون اللجوء فردياً لتلك المراكز".
وأضاف المصدر أنّ "الاتفاق سينصّ على سرية المعاملات المالية والأمنية والفنية بين الطرفين، وعدم عرضها على أية هيئة تحكيمية، وتقديمها حال الطلب من قبل اللجنة المشتركة لتسوية المنازعات التي قد تنشأ عند التنفيذ أو وقوع الأضرار".
وكشف المصدر أيضاً أن الحكومة المصرية أخطرت رسمياً شركة "يونيون فينوسا" الإسبانية التي باتت مملوكة لشركة "إيني الإيطالية"، والمالكة لمصنع إسالة الغاز بدمياط، بتفاصيل اتفاق استيراد الغاز، وأنها ستكون الوجهة الأولى لضخ الغاز لتسييله، تمهيداً لمطالبة الشركة الإسبانية بالتنازل عن دعوى التحكيم التي رفعتها أمام المركز الدولي لتسوية المنازعات الاستثمارية عام 2013، بسبب توقف توصيل الغاز المصري لمصنع الإسالة منذ 2011، مما كبد الشركة خسائر مالية فادحة.
وذكر المصدر أن الشركة الإسبانية أبلغت المركز الدولي في يناير/كانون الثاني الماضي برغبتها في تأجيل الفصل في المنازعة لحين التوصّل إلى اتفاق جديد مع الحكومة المصرية بشأن استفادتها من الاكتشافات الغازية الجديدة في حقل ظهر، وكذلك من الاتفاقيات المزمع عقدها مع إسرائيل وقبرص، بما يشي بقرب تنازلها عن الدعوى.
وكان السيسي وصف اتفاق استيراد الغاز من إسرائيل بأن "مصر جابت غول"، في إشارة إلى أنّ الاتفاق سيحوّل مصر إلى مركز إقليمي لتسييل الغاز الطبيعي، وأن مصر قطعت الطريق على استفادة تركيا من الغاز الإسرائيلي لإجراء عمليات الإسالة وإعادة تصديره لأوروبا. كما أشاد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بتوقيع الاتفاقية ووصفها بـ"التاريخية"، قائلاً إنه "يوم عيد" في بلاده، وإن "الاتفاقية ستُدخل المليارات إلى خزينة الدولة الإسرائيلية، وستصرف هذه الأموال لاحقاً على التعليم والخدمات الصحية والرفاهية لمصلحة المواطنين الإسرائيليين".
وكان النظام المصري قد مهد لإبرام الصفقة الأضخم مع إسرائيل بإصدار قانون يسمح لشركات القطاع الخاص باستيراد الغاز الطبيعي، وتسويقه، وبيعه في السوق المحلي، بدعوى التوسع في مجالات استثمارات الغاز وتشجيع وجذب الاستثمارات إلى القطاع.