ويدخل الحراك الشعبي المستمر منذ 22 فبراير/ شباط الماضي لاعباً أساسياً في المشهد الجزائري، وسط توقعات بأن تكون له آثار كبيرة على سير العملية الانتخابية، خصوصاً نسبة المشاركة فيها، في ظل تحدٍ تواجهه السلطة لمنع عزوف كبير عن المشاركة. وأدى الحراك المستمر حتى اليوم إلى زيادة الضغوط على السلطة لتقديم تنازلات سياسية كبيرة، أسهمت في الوصول إلى انتخابات اليوم. فإضافة إلى إطاحة بوتفليقة وإلغاء مشروع الولاية الخامسة وإسقاط حكومة أحمد أويحيى، اضطرت السلطة إلى إنشاء هيئة حوار كإطار تم من خلاله استحداث هيئة الانتخابات وصياغة قانون لها وتعديل قانون الانتخابات، واستبعاد الإدارة من العملية الانتخابية وتحييد كامل للسلطة عن المسار الانتخابي.
وعلى الرغم مما يتردد عن وجود محاولات تواطؤ سياسي وإداري من قِبل مؤسسات حكومية، أو توجّه السلطة بشكل غير رسمي لدعم المرشح عز الدين ميهوبي، بحسب شكاوى رسمية قدّمها ممثلو عدد من المرشحين ضد مسؤولين محليين في هذا الشأن، إلا أن ذلك لم يخدش حتى الآن الصورة العامة لهذه الانتخابات، ولم يكن كافياً لتأسيس موقف بشأن دعم السلطة والجيش لمرشح معين. وساعدت مواقف الجيش العلنية، مع إعلان قائد أركانه الفريق أحمد قايد صالح حياد المؤسسة العسكرية والتزامها المسافة نفسها عن كل المرشحين الخمسة، في تشكل ضبابية كبيرة حول إمكانية أن تتوجه الجزائر للمرة الأولى نحو انتخابات غير محسومة سلفاً.
ويعتقد المحلل السياسي أحسن خلاصي أن وجود هيئة مستقلة للانتخابات من منجزات الحراك الشعبي، واضطرت السلطة لإقرارها وإنشائها بعد سنوات من رفض مطلب قوى المعارضة تأسيس هيئة مستقلة للانتخابات، مؤكداً في حديث مع "العربي الجديد" أن "نجاح الهيئة المستقلة في قيادة التجربة الانتخابية في الجارة تونس شجّع قوى السلطة على القبول بالأمر الواقع، والخضوع لمطلب الحراك والمعارضة بإنشاء هيئة مستقلة وتحييد الإدارة عن الانتخابات". ويشير إلى أن "الظروف المرتبكة والطريقة التي أنشئت بها الهيئة في الجزائر، والتي رفضتها قوى المعارضة، تجعل الهيئة أمام رهانين مركزيين، هما التحكّم في العملية الانتخابية لجهة الإشراف والتنظيم كتجربة أولى، وإثبات حضورها والنجاح في منع أي تلاعب بسير ونتائج الانتخابات الرئاسية، وهو أمر يبدو صعباً أيضاً".
انقسام حاد
لكن هذه الاعتبارات السالفة لا تلغي واقعاً سياسياً وشعبياً متوتراً لأول انتخابات رئاسية لا يشارك فيها بوتفليقة ولا يُعرف فيها مرشح السلطة والجيش، وأول انتخابات بعد الثورة الشعبية التي قلبت نظام حكم بوتفليقة ودفعت بعدد من رموزه إلى السجن. وكان البلد يتوجه حتى منتصف مارس/ آذار الماضي نحو انتخابات 18 إبريل/ نيسان الماضي، قبل أن يتم إلغاؤها في 11 مارس/ آذار على خلفية تصاعد تظاهرات الحراك الشعبي الذي بدأ في 22 فبراير/ شباط.
وعلى الرغم من سلّة المكاسب التي حققها الحراك الشعبي والتعديل الجذري في البيئة والتشريعات الخاصة بالانتخابات والظروف المحيطة بها، فإن ذلك لم يُرضِ الحراك الشعبي بشكل كامل، إذ تشهد الانتخابات الرئاسية انقساماً مجتمعياً بشأن تنظيمها والمشاركة فيها، شعبياً وسياسياً، وامتد هذا الانقسام بشكل عمودي على صعيد القوى السياسية والمدنية وعمودياً داخل المكونات الشعبية. وانتهى المشهد في الجزائر إلى كتلتين، تؤيّد الأولى تنظيم الانتخابات الرئاسية وتدعو للمشاركة القوية فيها، وتضم القوى الداعمة للمرشحين الخمسة والمجموعات السياسية والمدنية الموالية للسلطة، كحزب "جبهة التحرير الوطني" و"التجمّع الديمقراطي" وحركة "البناء" (إسلامي) والاتحاد العام للعمال الجزائريين وغيرها، إضافة إلى كتلة شعبية مهمة تعتبر أن تنظيم الانتخابات هو الحل السياسي للأزمة والمخرج الأكثر أماناً بالنسبة للبلد ويمنع الخروج عن الإطار الدستوري، وممر هو الأقل كلفة من أي مسارات أخرى خارج الدستور، خصوصاً أن البلد ظل بلا رئيس للجمهورية منذ تسعة أشهر، ووسط مؤشرات أزمة اقتصادية واجتماعية. أما الكتلة الثانية المتمسكة بمطالب الحراك الشعبي برفض الانتخابات، فتعتبر أن هذا الاستحقاق يتيح للنظام تجديد نفسه، وأن ظروف ترتيب هذه الانتخابات بشكل منفرد من قبل السلطة وتعيين هيئة الانتخابات، سيكرّس انتخابات أزمة لن تحل المأزق الحالي للبلد. وزاد وجود خمسة مرشحين كلهم ممن يوصفون بـ"أبناء النظام" ورؤساء حكومات بوتفليقة ووزرائه السابقين، وغياب أي مرشح من المعارضة، في تصاعد الموقف الشعبي الرافض للانتخابات والذي يتجلّى في استمرار التظاهرات ومنع الانتخابات في عدة بلدات وولايات، خصوصاً في منطقة القبائل. وتُمثل هذا الموقف الرافض، إضافة إلى الحراك، قوى إسلامية كـ"جبهة العدالة والتنمية" وحركة "مجتمع السلم" و"قوى البديل الديمقراطي" (التي تضم جبهة القوى الاشتراكية والتجمع من أجل الثقافة والديمقراطية، وغيرها).
وبرأي الناشط السياسي ناصر حداد، فإن حصول الانتخابات الرئاسية في ظروف كهذه، يؤشر إلى إمكانية ارتفاع غير مسبوقة لنسبة العزوف عن الانتخابات، أكثر بكثير من مجموع الاستحقاقات الانتخابية السابقة. ويشير حداد في تصريح لـ"العربي الجديد" إلى أن آخر انتخابات جرت في الجزائر في يونيو/ حزيران ونوفمبر/ تشرين الثاني 2017، وكانت خاصة بالبرلمان والبلديات، ولم تتجاوز حينها نسبة المشاركة الـ37 في المائة، ولم تكن حينها توجد أي مؤشرات لحركة مقاومة أو حراك شعبي، موضحاً أنه يمكن على أساس ذلك تصوّر نسبة المشاركة في ظل الظروف الراهنة والحراك الشعبي. ويبدي حداد، الذي كان رفيقاً للزعيم حسين ايت أحمد، مخاوفه من انزلاقات محتملة في بعض المناطق بسبب الرفض الشعبي للانتخابات.
عوامل تدفع للمقاطعة
وعلى الرغم من مستويات متعددة من الدعاية السياسية وجولات الحوار التي قادتها هيئة الحوار، والدعوات المتتالية لقائد أركان الجيش للشعب والطبقة السياسية بضرورة الذهاب إلى الانتخابات الرئاسية كحل وحيد للأزمة، إلا أن السلطة أخفقت في إقناع الكتلة الرافضة للانتخابات بهذا المسار. ويعتقد متابعون أن ثمة عوامل أساسية ساهمت في ذلك، وإضافة إلى عامل أزمة الثقة المتراكم بين السلطة والشعب والمكوّنات السياسية والمدنية المعارضة منذ عقود، فإن الخطوات الانفرادية التي اتخذتها السلطة والجيش، والظروف الملتبسة التي رافقت إنشاء هيئة الحوار ثم هيئة الانتخابات، عمّقت من أزمة الثقة والرفض. يضاف إلى ذلك رفض السلطة والجيش التفاعل مع عدد مهم من المبادرات السياسية التوافقية التي طرحتها قوى المعارضة، خصوصاً "أرضية عين البنيان" التي انبثقت عن مؤتمر المعارضة في يوليو/ تموز الماضي. ويعتقد الناشط عبد الوكيل بلام، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن "تزايد التضييق على العمل السياسي وحراك الناشطين وحملة الاعتقالات وإغلاق الإعلام وتزايد الخطابات الحادة لقائد الجيش ضد الحراك وغيرها، كلها عوامل ساهمت في صياغة موقف الرفض وجعلت السلطة عاجزة عن إقناع معارضيها بالمسار الانتخابي".
في المقابل لم تُبدِ السلطة أي تفهم أو اقتناع بالخيارات التي يطرحها الحراك الشعبي ومبادرات قوى المعارضة، وإضافة إلى عدم وجود تصورات سياسية محددة لحل الأزمة ضمن هذه المبادرات، فإن مسألة الخروج عن الدستور والذهاب إلى مرحلة انتقالية وإنشاء هيئة رئاسية مؤقتة، ظلت بالنسبة للسلطة مخارج غامضة وقد تضع البلد في مخاطر حقيقية، على خلفية تجارب سابقة. كما أن حالة الانقسام بين قوى المعارضة نفسها، وعدم وجود أطر تمثيلية للحراك الشعبي وبروز مشاكل الهوية والراية الأمازيغية، عوامل أضعفت موقف الحراك والمعارضة، ودفعت كتلة شعبية غير مقتنعة بالانتخابات إلى الموافقة على الانتخابات "كحل مكره".
غموض يلف النتائج
لا تبدو الأمور في الانتخابات الرئاسية قد حُسمت لأي من المرشحين الخمسة، فرئيس الحكومة الأسبق علي بن فليس أخفق في الحصول على دعم قوى الحراك والمعارضة التي كان شريكاً لها في كل المبادرات منذ عام 2014، لكنه يراهن على رصيده كمعارض لبوتفليقة منذ عام 2004. أما رئيس الحكومة السابق عبد المجيد تبون، الذي كان أبرز مرشح عند بداية الحملة الانتخابية، وكان يظهر في صورة مرشح السلطة والجيش، فإن سلسلة معطيات غيّرت موقعه في الخارطة الانتخابية، بداية من استقالة مدير حملته السفير عبد الله باعلي، إلى محاكمة نجله في قضية فساد، لكنه نجح في تجمعاته الانتخابية في تقديم خطاب رجل دولة. من جهته، برز وزير الثقافة السابق عز الدين ميهوبي في المرحلة الأخيرة من الحملة الانتخابية مستفيداً من شائعات قدّمته في صورة مرشح السلطة غير المعلن، على الرغم من أن إدانة الأمين العام لحزب "التجمّع الديمقراطي" أحمد أويحيى في قضية فساد، قبل يومين من الاقتراع، أضرّت بصورته. فيما لعبت الظروف السياسية ضد المرشح الإسلامي عبد القادر بن قرينة، إذ لم يحصل على دعم القوى الإسلامية، لكنه قدّم في المقابل مؤشرات على تطور لافت في خطاب الإسلاميين السياسي والانتخابي، بينما يبدو المرشح الخامس عبد العزيز بلعيد مكتفياً بصفة المرشح الرئاسي فقط.
ولا تظهر أي مؤشرات بشأن إمكانية حصول أحدهم على ما يفوق الخمسين في المائة من الأصوات وحسم الانتخابات في الدور الأول، ما يعني التوجّه إلى دور ثاني بعد شهر. لكن المنافسة تبدو محصورة نسبياً بين ثلاثة من المرشحين، هم ميهوبي وبن فليس وتبون، مقارنة مع المرشحَين الآخرين، بن قرينة الذي خسر مسبقاً دعم القوى الإسلامية، وبلعيد الذي بدت حملته الانتخابية باهتة.
وإذا كانت التطورات التي شهدتها البلاد في الساعات الأخيرة قبل الاقتراع، والمتعلقة بإثارة قضية اختراق أجنبي وتخابر لمسؤول في إدارة الحملة الانتخابية لبن فليس، وكشف قضية حساب مصرفي له في فرنسا، وإثارة قضية نجل تبون الموقوف في السجن في قضية فساد وعلاقته مع بارون مخدرات، وتوقيف أبرز ممولي حملة تبون الانتخابية، مورّد الخمور عمر عليلات في قضية فساد أيضاً، تصب في صالح ميهوبي، إلا أن مراقبين لا يعتقدون أن يكون لهذه التفاصيل تأثير بالغ في سلوك الناخبين.
ويشير الأستاذ الجامعي عبد العالي زواغي، في تصريح لـ"العربي الجديد"، إلى أن "سلوك الناخب الجزائري تحكمه أيضاً عقلية الشك، وإثارة هذه القضايا في توقيت كهذا قد تؤدي إلى نتائج عكسية، إذ يمكن أن يتمسك الناخب بالمرشح الذي تثار حوله الشكوك ويعتبر أن هذه الشكوك مفتعلة ضده". ويتوقع زواغي ألا تُحسم الانتخابات في جولة اليوم، بسبب وجود تقارب كبير بين المرشحين، ما يعني استحالة حصول أي منهم على أكثر من 50 في المائة، موضحاً أن "الظروف التي تقام فيها الانتخابات، وسعي السلطة لإضفاء نزاهة عليها، واستبعاد أي تشويش يضر بمصداقيتها، والتقارب بين المرشحين وغياب مرشح السلطة، سيؤدي بنا بالضرورة إلى دور ثانٍ، قد يحصل بين اثنين من ثلاثة مرشحين، بن فليس وميهوبي وتبون".
ويُلاحَظ أن الاستحقاقات الانتخابية الـ25 المتنوعة، التي سبقت انتخابات اليوم في الجزائر، لم تُسهم في إيجاد مؤسسات جدية لسبر الآراء وقياس الرأي العام، خصوصاً أن غياب قانون ينظّم عمل هذه المراكز والمؤسسات لم يشجع على قيامها للمساعدة في قياس توجّهات الناخبين ونوايا التصويت، مقارنة مع الجارة تونس. ويضفي هذا الوضع غموضاً إضافياً على النتائج والمخرجات التي ستنتهي إليها انتخابات الخميس التي ستمثّل في المجمل منعطفاً مهماً في تاريخ الجزائر على أكثر من صعيد، على الرغم من الظروف التي تتم فيها.
حياد العسكر؟
منذ بدء المسار الانتخابي، يحرص قائد الجيش الجزائري الفريق أحمد قايد صالح على تأكيد حيادية الجيش والوقوف على مسافة واحدة عن المرشحين الخمسة، وذكر في خطابات سابقة أن "عهد صناعة الرؤساء قد ولى"، في إشارة منه إلى انتهاء مرحلة تدخّل الجيش في اختيار الرؤساء في الجزائر. وأكد أن الشعب هو سيد خياره وأن "الجيش ليس له مرشح ولن يدعم أياً منهم، والشعب هو الذي يقرر ويحدد الرئيس المقبل، والجيش سيلتزم بالاختيار الشعبي".
لكن تصريحات كهذه ليست جديدة، ولها سوابق مماثلة في مجمل الانتخابات الرئاسية التي شهدتها الجزائر منذ عام 1995، غير أن إثباتها على أرض الواقع مسألة أخرى، حتى وإن كانت الظروف المحيطة بالانتخابات الحالية ومؤشراتها الميدانية تذهب في اتجاه وجود حياد لافت للجيش بشأن المرشحين، إذ لم يتم رصد أي سلوك يؤشر إلى وجود توجّه محدد للجيش.
وعززت وزارة الدفاع الجزائرية هذا الموقف بإعلانها أنها لن تتدخّل في اختيارات العسكريين في الانتخابات الرئاسية. وقال بيان صدر الأحد الماضي، إن القيادة العليا للجيش ملتزمة بمنح العسكريين حق الاختيار بين المرشحين من دون أي ضغوط، وإن "العسكريين يحتفظون بحرية اختيار المرشح الذي يستجيب لقناعاتهم الخاصة خلال هذه الانتخابات الحرة التي تطبعها قيم الديمقراطية والشفافية والنزاهة وبما يعبّر عن إرادة الشعب واختياره الحر".
وحرصت قيادة الجيش على التذكير بأن العسكريين سينتخبون باللباس المدني، وفي مكاتب التصويت العادية المسجلين بها عبر كافة ربوع الوطن، فيما يمكن للذين يتعذر عليهم التصويت المباشر بحكم المهام المنوطة بهم أداء واجبهم الانتخابي بالوكالة حسب قانون الانتخابات. ويصوّت العسكريون وأفراد الأسلاك النظامية البالغ عددهم 1.2 مليون فرد في مكاتب التصويت المدنية نفسها، في وقت مبكر وعلى دفعات، للتفرغ لاحقاً لتأمين الانتخابات، أو بالوكالة عبر أقاربهم، بعدما ألغى قانون الانتخابات الجزائري منذ تعديلات عام 2004 المكاتب الخاصة للتصويت في الثكنات لأفراد الجيش وأفراد الشرطة والأجهزة الأمنية، الذين كانوا يصوّتون قبل الانتخابات بيوم داخل المراكز الثكنات والمراكز الأمنية، وهو ما كان يثير حفيظة القوى السياسية التي كانت تشكك في طريقة ونتائج تصويت ما يقارب المليون عنصر من الجيش والأجهزة الأمنية والأسلاك الخاصة.