تعيد عملية الإنزال البحرية، التي أعلن الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو أنه تم إفشالها متهماً إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالوقوف خلفها، إلى الأذهان العملية العسكرية الفاشلة التي شنتها واشنطن في العام 1961، لقلب نظام الحكم في كوبا، الذي كان يقوده وقتها فيديل كاسترو، وأطلق عليها اسم "غزو خليج الخنازير".
وكانت الإدارة الأميركية استخدمت في عملية "خليج الخنازير" قوات كوماندوس من الكوبيين اللاجئين في أميركا، بعد تدريبهم وتسليحهم في معسكرات وكالة المخابرات المركزية "سي أي أيه"، فيما تم في "الهجوم البحري" على كراكاس، بحسب الحكومة الفنزويلية، استخدام "مرتزقة" حاولوا دخول البلاد من كولومبيا المجاورة على متن زوارق سريعة. وفي حين أنه تم استخدام مئات الكوبيين المنشقين في عملية "خليج الخنازير"، فإنه كان من المتوقع فشل الهجوم البحري على فنزويلا، إذ يبدو أن السلطات كانت على معرفة مسبقة به، وأنه كان يهدف إلى "اعتقال" مادورو، الذي لا يزال يحظى بدعم قوي من القوات المسلحة الفنزويلية، ومن روسيا والصين وكوبا.
وتأتي محاولة "الغزو" المفترضة، والتي وصفها مادورو بأنها تشبه "عمليات رامبو"، بعد أكثر من عام على دعوة المعارض خوان غوايدو الجيش إلى انتفاضة، عندما حاول بدون جدوى في 30 إبريل/نيسان 2019 تحريض الجنود على التمرد ضد من يصفه بـ"مغتصب السلطة". وكثيراً ما يتهم مادورو خصومه السياسيين بمحاولة إسقاط إدارته بدعم من الولايات المتحدة التي تعهدت بإبعاده عن منصبه من خلال عقوبات تشل صادرات النفط في بلده، بالإضافة إلى وضع عقوبات عليه وعلى قياداتٍ عسكرية فنزويلية.
وفي حين أدت عملية "خليج الخنازير" إلى أزمة غير مسبوقة بين الاتحاد السوفييتي، الداعم الرئيسي لكوبا، وبين أميركا، بعد أن وضعت العالم على شفا حرب نووية، ورسمت مسار العلاقات الأميركية الكوبية طوال خمسة عقود، فإنه لم يعرف بعد كيف سيكون رد موسكو على "مهاجمة" حليفها. وتعدّ الأزمة الفنزويلية واحدة من نقاط التوتر بين موسكو وواشنطن. وجرى التباحث في القضية خلال لقاء وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين في سوتشي في 14 مايو/أيار 2019، من دون إحراز تقدّم. وأرسلت روسيا نحو مائة جندي في مارس/آذار 2019 إلى الدولة الأميركية الجنوبية التي تواجه أزمة سياسية منذ إعلان غوايدو نفسه رئيساً بالوكالة واعتراف نحو 50 دولة به، بينها الولايات المتحدة. وأعلن السفير الروسي لدى كراكاس، فلاديمير زايومسكي، في مقابلة مع وكالة "فرانس برس" في مايو 2019، أنّ القوات الروسية التي وصلت إلى فنزويلا تساعد الجيش في تحضيراته لمواجهة التهديدات الأميركية بـ"اللجوء إلى القوة". وأضاف أنّ "خبراءنا متواجدون لتدريب نظرائهم الفنزويليين على الحفاظ على جهوزية معدّاتهم العسكرية، وفي الوقت نفسه يرشدونهم إلى أفضل السبل لاستخدامها". وأوضح أنّ الروس يتواجدون في فنزويلا استناداً إلى اتفاق موقّع في العام 2001.
وفي حين أدت عملية الغزو الفاشلة إلى تعزيز مركز كاسترو، فإن مادورو يحاول الاستفادة إلى أقصى الحدود من إفشال الهجوم، لتقوية موقعه في السلطة، عبر إظهار غوايدو أنه "عميل" لأميركا، بالإضافة إلى محاولة توجيه الأنظار بعيداً عن مشكلة ارتفاع أسعار السلع الغذائية، على خلفية أزمة فيروس كورونا، وتواصل انقطاع الكهرباء في عدد من المناطق.
وأعلن مادورو، الإثنين الماضي بحسب وكالة "فرانس برس"، أنّ بلاده اعتقلت خلال يومين 15 شخصاً، بينهم أميركيان، بتهمة محاولة التوغل في البلاد من طريق البحر، فيما اتهمت النيابة العامة غوايدو بتجنيد "مرتزقة". وقدم مادورو، متحدثاً لشبكة "في تي في" العامة، الأميركيين على أنهما "عضوان من جهاز أمن" ترامب، الذي سارع، مثل وزارة الخارجية الأميركية ووزير الدفاع الأميركي مارك إسبر، لنفي وقوف واشنطن وراء محاولة الإنزال البحرية الفاشلة. وعرض مادورو جوازي سفر المشتبه بهما على أنهما لوك دينمان (34 سنة) وآيرن بيري (41 سنة). وتظهر الوثائق أن بيري خدم في قوة الهندسة في الجيش الأميركي بين العامين 1996 و2013، الذي تم نشره 3 مرات في العراق، فيما خدم دينمان في جهاز الاتصالات لخمس سنوات.
واتهمت النيابة العامة الفنزويلية غوايدو بتجنيد "مرتزقة" من أموال النفط المجمدة بسبب العقوبات الأميركية، للإعداد لعملية "توغل" بحرية في البلاد. وأعلن المدعي العام طارق وليام صعب أن "مرتزقة وقعوا عقوداً" بقيمة 212 مليون دولار عبر المال "المنهوب" من شركة النفط الرسمية "بي دي في أس إيه" و"حسابات (لكراكاس) مجمدة في الخارج"، متهماً عسكرياً أميركياً سابقاً يحمل اسم جوردان غودرو بالوقوف خلف العملية. وقال "هذا العقد علني. يمكن رؤية توقيع المواطن خوان غوايدو عليه" و"جوردان غودرو نفسه"، في إشارة إلى وثيقة مفترضة كشفت عنها صحافية فنزويلية تدعى باتريسيا بوليو تقيم في ميامي. ونشرت النيابة مقطع فيديو يظهر فيه جوردان، الذي أسس شركة أمنية خاصة اسمها "سيلفر كورب"، ومقرها فلوريدا، وهو يقول إن عملية ضد مادورو قائمة.
ونفى غوايدو أي علاقة له بهذه الشركة الأمنية. وفتحت النيابة تحقيقات عدة بحق غوايدو، الذي اعترفت به نحو 60 دولة، رئيساً انتقالياً لفنزويلا، لكن من دون إصدار مذكرة توقيف. واعتبرت الولايات المتحدة أنّ ما أعلنه مادورو عن إحباطه مؤامرة "لغزو" بلاده شارك فيها مواطنان أميركيان اعتقلتهما كراكاس هو مجرد "ميلودراما وحملة تضليل ضخمة". وقال متحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية إنّ "هناك حملة تضليل ضخمة يقوم بها نظام مادورو، ما يجعل من الصعب فصل الحقائق عن الدعاية". ونفى ترامب أي علاقة لواشنطن بالهجوم المزعوم في فنزويلا. وقال "مهما كان الأمر، سنخبركم بذلك. لكن لا علاقة له بحكومتنا". كما نفت وزارة الخارجية الكولومبية التورط في العملية. وقالت، في بيان، إن "هذه الاتهامات تأتي لإخفاء المشاكل الحقيقية التي يعاني منها الشعب الفنزويلي".
وكانت كراكاس أعلنت أنها أحبطت في ولاية لاغوايرا شمال البلاد، على بعد 40 دقيقة من العاصمة كراكاس، محاولة "غزو عبر البحر" من قبل "مرتزقة" قدموا من كولومبيا على متن زوارق سريعة بهدف تدبير "انقلاب" ضد مادورو. وانتهت العملية بمقتل ثمانية "إرهابيين"، واعتقال 15. وبحسب المسؤول الثاني في النظام ديوسدادو كابيلو، فإن الضابط المنشق أنطونيو سيكوا، الذي كان بين العسكريين الثلاثين الذين انتفضوا في 30 إبريل/نيسان 2019، اعتقل مع أشخاص آخرين في مدينة شواو الساحلية.
وأعلن غودرو، مؤسس شركة "غرين بيريت" (جنود القوات الخاصة الأميركية) و"سيلفر كورب"، بحسب وكالة "أسوشييتد برس" المسؤولية عن قيادة "عملية جدعون" التي بدأت بمحاولة هبوط على الشاطئ قبل فجر الأحد وأسفرت عن مقتل ثمانية مهاجمين مشتبه بهم، فيما اعتقل الجنديان السابقان على بعد عشرات الأميال من أول محاولة هبوط على الشاطئ قرب قرية صيد. وقال غودرو إن العملية كانت تهدف إلى اعتقال مادورو وليس قتله، وأنه نفذها "بميزانية محدودة" بعد توقيع اتفاق مع غوايدو، الذي يتهمه غودرو بعدم الدفع مقابل هذه العملية. وأشار إلى أن 60 شخصاً، وصفهم بأنهم "مقاتلون للحرية"، شاركوا في العملية الفاشلة. وحاول إبعاد الشبهات عن الإدارة الأميركية، موضحاً، في مقابلة متلفزة، أن "الولايات المتحدة الأميركية لن تحل المشكلة. لن تقوم بالغزو، لأنه ليست مهمتها، لكن هناك فنزويليين يريدون القتال".
ونقلت صحيفة "وول ستريت جورنال" عن الخبير في القوات المسلحة الفنزويلية روسيو ميغيل قوله إنه يبدو أن القوات الفنزويلية استطاعت اختراق المجموعة، التي كانت تتدرب، بحسب غودرو، في كولومبيا. وكان مادورو أعلن أن إدارته كانت تعرف مسبقاً بالعملية. وقال "نعرف كل شيء، ما تحدثوا عنه، وما أكلوه وشربوه، ومن مولهم". وقال مايك فيغيل، الرئيس السابق للعمليات الدولية في إدارة مكافحة المخدرات، "صدمني مدى جنونهم. لقد ساروا مباشرة نحو أفعى رقطاء دون حتى دراسة الحد الأدنى لقدرة القوات المسلحة الفنزويلية. ليس هناك من طريقة لتدعم حكومة الولايات المتحدة عملية كهذه".