ضغوط سياسية وعسكرية في الملف السوري

04 ديسمبر 2019
تواصل القصف على ريف إدلب (عمر حاج قدور/فرانس برس)
+ الخط -




تشهد القضية السورية العديد من التطورات العسكرية والسياسية المتلاحقة، في ظل تصعيد واسع النطاق على الشمال الغربي من البلاد مع تمهيد قوات النظام طريق تقدمها المتوقع في عمق محافظة إدلب بالمجازر بحق المدنيين، بينما يتجه الشمال الشرقي من البلاد إلى تهدئة أرسى دعائمها تفاهم تركي روسي حول الطريق الدولي "أم 4" الذي يعد أحد الشرايين الاقتصادية في المنطقة الغنية بالثروات، في حين تبحث أنقرة عن دعم غربي في حربها ضد "قوات سورية الديمقراطية" (قسد) في منطقة شرقي نهر الفرات، مهددة بمعارضة خطط حلف الأطلسي في البلطيق في حال لم يساندها الحلف ويعتبر هذه القوات "منظمة إرهابية". وفي الشمال الغربي من سورية، لم تستفق بعد مدينة معرة النعمان كبرى مدن ريف إدلب الجنوبي من صدمتها بعد، إثر المجزرة التي ارتكبها طيران النظام يوم الاثنين، جراء استهداف السوق الشعبي للمدينة بعدد من الصواريخ. كما قتُل عدد من المدنيين في مدينة سراقب المجاورة بقصف مماثل في مؤشر على نية النظام التوغل أكثر في عمق محافظة إدلب على الطريقين الدوليين، "أم 4" و"أم 5"، اللذين يصلان حلب، كبرى مدن الشمال السوري بوسط البلاد وساحلها، ولا سبيل لذلك إلا بالسيطرة على المدينتين. ويؤكد التصعيد واسع النطاق والمدعوم بغطاء ناري من الجانب الروسي أن الأيام المقبلة حافلة بالتطورات، مع ترنّح التفاهمات التركية الروسية المبرمة في سوتشي حول محافظة إدلب ومحيطها.

وتدل الوقائع الميدانية إلى أن النظام يضع في مقدمة أولوياته السيطرة على مدن أربع في محافظة إدلب وهي: جسر الشغور في ريف إدلب الغربي، وأريحا ومعرة النعمان في ريف إدلب الجنوبي، وسراقب في ريف إدلب الشرقي ليضع يده بذلك على الطريقين الدوليين، ويجبر فصائل المعارضة السورية على مصالحة شبيهة بتلك التي جرت في جنوب البلاد منتصف العام الماضي. وحضر ملف محافظة إدلب يوم الاثنين، على طاولة المباحثات بين رئيس النظام السوري بشار الأسد وبين المبعوث الخاص للرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى سورية ألكسندر لافرنتييف، ونائب وزير الخارجية الروسي سيرغي فيرشينين، في العاصمة السورية دمشق. وذكرت وسائل إعلام تابعة للنظام أن الجانبين أكدا على "مواصلة مكافحة الإرهاب ومنع تنظيماته من مواصلة استخدام أهالي المنطقة دروعاً بشرية، بهدف تحويل إدلب إلى ملاذ دائم للإرهابيين"، في مؤشر واضح على نية النظام والروس مواصلة التصعيد في الشمال الغربي من سورية.

وتأتي زيارة المبعوث الروسي قبل أيام من انطلاق الجولة الـ 14 من مباحثات "أستانة" المقررة يومي 10 و11 ديسمبر/كانون الأول الحالي. وكانت آخر جولتين من هذه المباحثات فشلتا في التوصل لتفاهمات حول مجمل الملفات التي يتناولها هذا المسار. ولا يزال النظام يصر على أنه غير معني بالمسار الدستوري في مفاوضات جنيف السويسرية التي ترعاها الأمم المتحدة، معتبراً أن الوفد الذي أرسله إلى جنيف مدعوم منه ولكنه لا يمثله، ما يعدّ تهرباً واضحاً من استحقاق الدستور، رغم أنه يأتي بعد الانتقال السياسي من خلال هيئة حكم كاملة الصلاحيات. ومن المتوقع أن تضغط موسكو على النظام لتسهيل مهمة الأمم المتحدة لكتابة دستور جديد للبلاد تجري على أساسه انتخابات. وكانت وزارة الخارجية الأميركية اتهمت يوم السبت الماضي، وفد النظام باللجنة الدستورية، في جنيف، بمحاولة تعطيل عمل اللجنة. وذكرت الخارجية الأميركية في بيان لها "أن وفد النظام طرح شروطا مسبقة، وانتهك بوضوح القواعد الإجرائية للجنة الدستورية، وهو محاولة صارخة لتعطيل الجهود المبذولة التي تدعمها كل من المجموعة المصغرة (حول سورية) ومجموعة أستانة".



وفي الشمال الشرقي من سورية، تتجه الأوضاع إلى تهدئة عقب اتفاق روسي تركي على إشراف مشترك على الطريق "أم 4"، فقال المتحدث باسم "الجيش الوطني السوري" التابع للمعارضة المسلّحة والمدعوم من الجيش التركي، الرائد يوسف الحمود، في تصريحات صحافية إنه "تم الاتفاق أن يكون الطريق الدولي تحت إشراف مشترك من القوات التركية والروسية"، موضحاً أن جنوب الطريق الدولي سيكون تحت الإشراف الروسي، بينما شمال الطريق الدولي سيكون تحت إشراف القوات التركية و"الجيش الوطني السوري".

وأضاف الحمود أن الاتفاق قضى أيضاً بتسيير دوريات روسية - تركية مشتركة على الطريق الدولي من تل تمر حتى عين عيسى، استكمالاً للاتفاق المشترك بين الطرفين والموقع في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، الذي قضى بتسيير دوريات عسكرية مشتركة على الخط الحدودي مع تركيا. وسبق أن وقعت اشتباكات دامية الشهر الماضي بين "الجيش الوطني السوري" وقوات "قسد" حول مدينتي عين عيسى في ريف الرقة الشمالي ومدينة تل تمر في ريف الحسكة لم تفضِ إلى حسم عسكري، وهو ما دفع الأتراك والروس للاتفاق على إشراف مشترك على الطريق مع دخول الروس الى المدينتين إضافة الى مدينة عامودا في ريف الحسكة.

من جانبه، أفاد المتحدث الرسمي باسم "قسد" كينو غبرييل، في بيان بأن "الاستقرار في شمال وشرق سورية يستدعي من الدولتين الضامنتين (الولايات المتحدة وروسيا) لعملية وقف إطلاق النار، العمل على ضمان وقف شامل لإطلاق النار وفتح الطريق الدولي أم 4 أمام حركة السفر للمدنيين". في المقابل، لا تزال أنقرة تحاول حشد موقف غربي داعم لها في منطقة شرقي نهر الفرات لجهة محاربة "قسد"، إذ لم ينظر الاتحاد الأوروبي بعين الرضا إلى العملية العسكرية التركية التي بدأت في 9 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وعُلّقت في 17 من الشهر نفسه بعد توصل أنقرة وواشنطن إلى اتفاق يقضي بانسحاب "قسد" من المنطقة، تلاه اتفاق مع روسيا في سوتشي 22 من الشهر ذاته.

إلى ذلك، تبذل أنقرة جهوداً سياسية مكثفة لحشد موقف غربي مؤيد لها في شرقي نهر الفرات مستخدمة العديد من أوراق الضغط. وفي هذا الصدد، حذر الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، قبيل توجهه إلى العاصمة البريطانية لندن لحضور قمة حلف شمال الأطلسي، من أنه في حال لم يعتبر الحلف المنظمات التي تحاربها بلاده "إرهابية" فستعارض أنقرة خطط الحلف في البلطيق، فيما شارك في قمة رباعية بشأن مستجدات الأوضاع في سورية، تضم إلى جانب تركيا، بريطانيا، وألمانيا، وفرنسا.

وتعتبر أنقرة الوحدات الكردية منظمة إرهابية كونها النسخة السورية من حزب العمال الكردستاني المصنف في خانة التنظيمات الإرهابية، في حين يتعامل الغرب مع الوحدات الكردية، التي كسبت ثقته من خلال حربها على مدى عدة سنوات لتنظيم "داعش" والتي انتهت بالقضاء عليه في شرقي نهر الفرات بدعم من التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة بعد كلفة بشرية ومادية مرتفعة. وتتوجس أنقرة من الدعم الغربي للوحدات الكردية، وهو ما دفعها للقيام بعملية عسكرية في أكتوبر الماضي، غايتها وأد أي محاولة لإنشاء إقليم ذي صبغة كردية بمساندة غربية في الشمال الشرقي من سورية. ومن الواضح أن الاتراك يناورون سياسياً ما بين الجانب الروسي ودول الغرب من أجل الحصول على مكاسب في القضية السورية من الطرفين، خصوصاً بعدما أصبحت مناطق واسعة من الشمال السوري نقطة نفوذ تركي بلا منازع تريد أنقرة ترسيخه.