الانتخابات التشريعية الفرنسية: أغلبية مطلقة في البرلمان للتصديق على إصلاحات ماكرون الكبرى
بعد أن كانت المقاطعة، والتي بلغت نسبتها 51.29 في المائة، هي الفائز الآخَر، في انتخابات الدورة الأولى من التشريعيات الفرنسية، الأحد الماضي، إلى جانب حركة الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، فإنه يخشى أن تتكرس، مرة أخرى، اليوم الأحد، وهو ما سيؤكد، في حال حصولها، اكتساح حركة "الجمهورية إلى الأمام" البرلمان الجديد. ويتفق كل المراقبين على أن المستفيد الأوحد من الامتناع عن التصويت هي حركة الرئيس الفرنسي والمرشحين الذين لا يخفون انضمامهم إليها ونوعاً من التماهي مع مشروعها، وهو قلق عبّرت عنه كل قيادات الأحزاب المنافسة لماكرون، من مارين لوبان إلى جان لوك ميلانشون، مروراً بقياديي حزب "الجمهوريون".
ودعا كثير من السياسيين الفرنسيين، ومنهم رئيس الوزراء، إدوار فيليب، الناخبين إلى التصويت بكثافة في الجولة الثانية من الانتخابات التشريعية، ما سيمنح في نظرهم شرعية للانتخابات، لأن ما شهدته فرنسا، الأحد الماضي، عبرت عنه مجلة "بوليتيس" الأسبوعية في صفحتها الأولى بعنوان "51.29 في المائة: نصف ديمقراطية". وقد حاول فيليب إضفاء نوع من التشويق على ما ستسفر عنه الدورة الثانية من الانتخابات، حين قال إن "الخبرة علمتني أن الفوز في الانتخابات لا يتحقق أبداً قبل اليوم الأخير، بل وحتى قبل الدقيقة الأخيرة من اليوم الأخير". وهو ما ليس صحيحاً، إذا علمنا أن لا أحد يشك في فوز حركة ماكرون. وما يُكذب قلق إدوار فيليب المصطنع هو كون الاستطلاعات الأخيرة تشير إلى أن حركة "الجمهورية إلى الأمام"، وحليفها حزب "الموديم"، سيحصدان اليوم الأحد ما بين 440 و470 من مجموع 577 مقعداً في الجمعية الوطنية، أي ما يمثل نسبة أربعة أخماس البرلمان الفرنسي. وما يكشف أن ماكرون مطمئن إلى نتائج الانتخابات هو عدم تحدثه إلى وسائل الإعلام عن الانتخابات التشريعية، وعدم توجهه إلى الشعب الفرنسي، كما فعل كل الرؤساء من قبله، من أجل حثه على منحه أغلبية برلمانية مريحة تساعده على تنفيذ سياساته.
لقد كانت الدينامية التي خلقتها "الجمهورية إلى الأمام" كافية لتفجير وتخريب الأحزاب السياسية الفرنسية التقليدية، وإعادة تشكيل المشهد السياسي الفرنسي، بشكل يليق مع الطبقة السياسية الجديدة التي ينوي ماكرون خلقها، وحكم فرنسا معها. وكان يكفي لكل مرشح سياسي، مهما كانت تجربته ومدى انغراسه في دائرته الانتخابية، أن يجد في مواجهته مرشحاً يحمل شعار "الجمهورية إلى الأمام"، بغض النظر عن سن المرشح وماضيه السياسي، حتى ينهزم. وهو ما دفع بالصحافي والإعلامي الفرنسي الشهير، إيدوي بلونيل، للقول "لو أن حركة الجمهورية إلى الأمام قدمت مرشحين عنها، من جنس الحمير، لفازوا". وإذا كان البرلمان الجديد سيطغى عليه اللون الأصفر، لون حركة ماكرون، تاركاً لحزب "الجمهوريون"، ما بين 60 و80 نائباً، وللحزب الاشتراكي ما بين 22 و35 نائباً، ولـ"فرنسا غير الخاضعة" وحلفائها من الشيوعيين ما بين 14 و25 نائباً، وما بين نائب و6 نواب لحزب مارين لوبان، إلا أنه سيختلف عما سبقه، من حيث "التشبيب" وعدد النواب الذين لم يمارسوا السياسة في حياتهم من قبل، وأيضاً نسبة النساء تحت قبته. فإذا كانت 246 مرشحة وصلن إلى الدور الثاني، فإن الأمل كبير في أن تصل نسبة النساء في البرلمان إلى 42 في المائة، وهو ما يعتبر رقماً قياسياً في فرنسا. وهذا الواقع الجديد دفع الوزير السابق وعالم الاجتماع، عزوز بقاق، إلى التنويه بقوة ماكرون في إحداث التحولات. وقال "وجوه جديدة في الجمعية الوطنية، يبدو أن التنوع في طريق التحسن".
وعلى الرغم من هذا الاكتساح الانتخابي لحركة ماكرون إلا أن الفرنسيين ليسوا جميعاً متحمسين لمنح الرئيس الجديد أغلبية مطلقة، إذ حسب آخر استطلاع للرأي، لا يتمنى سوى 30 في المائة من الفرنسيين حصول الرئيس على هذه الأغلبية. ويأمل 18 في المائة أن تتمتع حركة ماكرون بأغلبية نسبية، وتتحالف مع يسار الوسط. كما يأمل 18 في المائة، أيضاً، أن تتوفر هذه الحركة على أغلبية نسبية، وتتحالف مع يمين الوسط، بينما يأمل 34 في المائة، من الذين شملهم الاستطلاع، ألا تحصل حركة ماكرون على أغلبية.
قلق خصوم ماكرون
لا يرى زعيم حزب "الجمهوريون" في البرلمان المقبل، فرانسوا باروان، ساحة للنقاش الحقيقي والجاد، لأن نواب "الجمهورية إلى الأمام" سيكونون "في وضع الاستعداد لتنفيذ أوامر الرئيس" لا غير. واعتبر هذا الوزير السابق، والذي كان يرى نفسه رئيساً للحكومة في حال فوز فرانسوا فيون بالرئاسة، أن حصول ماكرون على أغلبية ساحقة قد يتسبب، ولو من دون قصد، في غياب النقاش البرلماني. وألمح إلى أن كثيراً من مرشحي ماكرون لم يعرفوا السياسة من قبل، وهم قادمون من المجتمع المدني.
وترى رئيسة حزب "الجبهة الوطنية" اليميني المتطرف، مارين لوبان، كل توقعاتها المتفائلة تنهار، وتعود بها إلى الحالة التي عرفها الحزب اليميني المتطرف قبل خمس سنوات. وبعد أن كانت تنتظر حشد 60 نائباً في البرلمان، مشكلة ما ترى فيه المعارضة الحقيقية الكبرى لماكرون، إذ بها، بعد أدائها المثير للشفقة أمام المرشح ماكرون في مناظرة ما قبل الدورة الثانية للانتخابات الرئاسية، تمنّي النفس بستة نواب في أحسن الأحوال. ومن جهته خاطب زعيم حركة "فرنسا غير الخاضعة"، جان لوك ميلانشون، الجمعة أنصاره بالقول إن "قوة المعارضة تتجسد فينا، وإن لم تتحركوا سينتهي بنا الأمر إلى الحزب الواحد، و570 دائرة تابعة إلى ماكرون". وحذر ميلانشون مما سماه "ديكتاتورية". وقال "هذا جنون ... سيكون عدد نواب المعارضة عندنا أقل من عددهم في روسيا".
ويبدو أن ميلانشون، زعيم حركة "فرنسا غير الخاضعة"، والتي يرى مدير صحيفة "بوليتيس"، دونيس سييفير، أنها "الحركة الوحيدة التي حققت بعض الإنجاز، وإن كان، في معظم الأحيان، على حساب شيوعيين واشتراكيين يساريين، كان عليهم أو بمستطاعهم، أن يكونوا حلفاءها"، يستطيع أن يحس بنوع من الرضى الذاتي بالنفس، فإذا لم يستطع أن يحصل على قوة في البرلمان تعادل النسبة التي حققها في الدورة الأولى من الرئاسيات، فهو على الأقل سيضمن مجموعة برلمانية مستقلة ومنسجمة. وهو أيضاً، كما تكتب المحللة السياسية، بولين كغول، في مجلة "بوليتيس"، "يرى استراتيجيته قد تعززت، ويجد نفسه على رأس المعارضة اليسارية لماكرون"، على الرغم من "غابة من الهزائم"، والتي تسبب فيها عدم تقديم اليسار المتعدد لمرشح واحد.
ماكرون وحكومته يعملان لما بعد الانتخابات
لا شك أن اكتساح معسكر ماكرون للجمعية الوطنية، سيمنح كل الصلاحيات للحكومة من أجل التعجيل بالإصلاحات التي لا يمكن أن تنتظر، خصوصاً إصلاح قانون الشغل، في عز الصيف، والذي وعد الرئيس الفرنسي بجعله من أولوياته. كما أن قانون تخليق الحياة السياسية، والذي جعله وزير العدل، فرانسوا بايرو، من شروط تحالفه السياسي مع ماكرون، سيرى النور قريباً. ومن بين الأولويات لدى حكومة ماكرون أيضاً، مجال الصحة، إذ يريد الرئيس تغيير النظام الصحي، وهو ما سيتضح في القريب العاجل. وكان المرشح ماكرون قد وعد بـ"إعادة توجيه أوروبا"، وهو ما سيبدأ، عبر تعزيز التحالف الفرنسي الألماني، ومساعدة بريطانيا على الخروج من الاتحاد الأوروبي بأقل الخسائر والآلام الممكنة. لا ينتظر الرئيس إيمانويل ماكرون ورئيس حكومته من نتائج الدورة الثانية، أي مفاجأة، والورش التي أعلن عنها ماكرون مفتوحة، والبرلمان الذي سيفتتح قريباً، لن يكون سوى صداها الخافت، فيما يتوعد الشارع "الاجتماعي" بإسماع صوته، بشكل أعلى وأعنف.